أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، قال وزير الدفاع الإسرائيلي إسحق رابين "ليت غزة تغرق في البحر"، بعد أن ضاق ذرعًا بجغرافيِّة وديمغرافيِّة القطاع اللتين جعلتاه مصدر مقاومة مستمرًا ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967.
لم يغرق القطاع في البحر، مثلما لم ينسَ رابين أبدًا رغبته الملِّحة في التخلص من حكمه وإدارته، لذلك كان أول المواقع التي انضمت للسلطة الفلسطينية الوليدة في إطار اتفاق غزة-أريحا عام 1994، الذي سمح بعودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة.
ولكن على الرغم من هذه العودة، استمرت المستوطنات في غزة، ومع انهيار عملية السلام واندلاع الانتفاضة الثانية، وتراجع حزب العمل واليسار الإسرائيلي بشكل عام لصالح أشكال وتنويعات مختلفة من اليمين القومي والديني، كان قرار أرييل شارون تنفيذ رغبة رابين عن طريق خطة الانسحاب الأحادي، وبل وتفكيك المستوطنات في 2005.
كان ذلك كله نتيجةً لإدراك الإسرائيليين، يمينًا ويسارًا، أن تكلفة احتلال غزة مرتفعة للغاية، نتيجة كثافة السكان وصِغر المساحة، فكان قرار اليمين هو إعادة احتلال قطاعات كبيرة من الضفة الغربية بدءًا من 2002، وتكثيف الاستيطان وتكريس مصادرة الأراضي عن طريق مد الجدار العازل، مقابل ترك قطاع غزة لحال سبيله.
فور أن غادر الإسرائيليون غزة سعوا لإلقاء تبعة إدارته على مصر، آملين في إعادة الأمور من جانب واحد، أي دون اتفاق مع الفلسطينيين، لما كان سائدًا قبل 1967، عندما أدار المصريون قطاع غزة منذ النكبة.
رفضت الحكومة المصرية وقتها الاعتراف بانسحاب إسرائيل الأحادي من غزة، بل ظلت تعتبر القطاع منطقة محتلة تقع مسؤولية إعاشة سكانها بالكامل على سلطة الاحتلال، طبقًا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
ومن هنا كان قرار مصر عدم الانضمام بأي شكل لما عُرف باتفاق المعابر في 2005، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بوساطة من الاتحاد الأوروبي، لتنظيم حركة المعابر بين إسرائيل وقطاع غزة، وهي الأكثر عددًا مقارنةً بمعبر واحد يربط القطاع مع مصر.
تعقدت الأمور أمام الجميع مع فوز حماس بانتخابات 2006، ثم استيلائها على الحكم في القطاع بعد طرد عناصر حركة فتح، ما مكَّن إسرائيل من التنصل من التزاماتها في اتفاق المعابر وفرض حصار كامل ومؤبد على القطاع، طالما ظلت حماس تسيطر عليه، مع محاولات بين حين وآخر لتصدير أعباء الإعاشة إلى مصر، التي ظلّ رفضها لذلك ثابتًا.
قلق مصري من أحاديث التهجير
غيّرت هجمات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الكثير من ثوابت المواقف الإسرائيلية والدولية، ولا تزال رحى الحرب دائرة بما لا يسمح بمعرفة أيِّ وضع سيتخذه القطاع بعد انتهاء الحرب.
يرتهن مستقبل القطاع بالوقائع على الأرض من ناحية، والترتيبات الأمريكية الإسرائيلية من ناحية أخرى، كون الأولى تحولت إلى طرف مباشر في العملية العسكرية في غزة، والثانية تؤمن المنطقة بشكل عام على نحو غير مسبوق على الإطلاق.
وفي هذا السياق، بَدر من الجانب المصري ما يعبر عن قلقه من تلك التوترات، خاصةً تجاه الحديث الإسرائيلي والأمريكي عن تهجير سكان القطاع أو جزء منهم إلى شمال سيناء خلال الأيام الأولى لاندلاع الحرب، وهو ما استدعى ردًّا غاضبًا وحاسمًا من السلطات المصرية حظي بتأييد شعبي واسع.
على مصر إعادة التفكير في الفصل بين مسألتين؛ إدارة قطاع غزة، ولعب دور في إعاشته مستقبلًا
في المقابل، قطعت إسرائيل كلَّ إمدادات الوقود ومياه الشرب والغذاء والدواء للقطاع، وهذه جريمة حرب، خاصة وأن إسرائيل منعت دخول أيَّ مساعدات من معبر رفح تجاه غزة طيلة أسبوعين فيما بدا خطة ممنهجة بتجويع وتعطيش السكان بالتزامن مع قصفهم، لدفعهم للنزوح إلى مصر.
ومع تكثيف الضغوط الدولية على إسرائيل، اضطرت السلطات الإسرائيلية لإعادة ضخ المياه إلى القطاع، وإن كان بشكل جزئي، وفي مواضع تستبعد الشمال حيث تريد إسرائيل تفريغه من السكان. وسمحت بدخول قوافل الإغاثة عبر معبر رفح مع تأكيدها أنها لن تسمح بإعادة تشغيل معابرها مع القطاع لدخول المساعدات إلا بعد إطلاق سراح الرهائن.
أعقب هذا تصريح آخر من وزير الدفاع بأن إسرائيل تعتزم قطع كافة علاقاتها مع القطاع بعد انتهاء الحرب، ما يعني تحللها من التزامات إعاشة السكان، على الرغم من عدم وجود إجماع داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن ما سيحدث بعد الحرب، هذا حال نجاحهم في "الإجهاز على حماس" من الأصل.
سلاح التجويع في خدمة النزوح
إذا انتهت الحرب الجارية في القطاع بإعادة احتلاله، فلن تكون إسرائيل قادرة على الجمع بين كونها "سلطة احتلال" وقطع علاقاتها به وبسكانه. والإسرائيليون لا يريدون هذا السيناريو باهظ التكلفة، ومن هنا كان بحثهم عن "احتلال من الباطن"، بالحديث تارة عن إدارة دولية للقطاع، وتارة أخرى عن إدارة عربية مشتركة، أو التصريح والتلميح عن أملهم أن "تعود" مصر إلى إدارة القطاع.
لن تتولى مصر تحت أي ظرف كان "إدارة قطاع غزة".
ولكن المخاوف لا تتوقف على النتائج قصيرة الأجل للحرب، بل لمستقبل القطاع على المدى الأطول. فقد كشفت هذه الحرب الجارية عن أمرين في منتهى الخطورة بالنسبة لمصر.
أولهما أنَّ سيناريوهات التهجير بحق السكان الفلسطينيين التي عُرفت أيضًا بالترانسفير، لم تعد فانتازيا خطابية لأقصى اليمين القومي والديني الإسرائيلي، بل أصبحت أفكارًا مطروحةً بقوة، خاصة مع زيادة احتمالات تقبُّل الحكومات الغربية لها، حال وصول القوى الفاشية للحكم في الولايات المتحدة مع ترامب أو غيره من الحزب الجمهوري.
أما الخطر الثاني، فهو أنَّ إسرائيل أقدمت بالفعل على استخدام "إعاشة غزة" ورقةَ ضغط بقطع الغذاء والوقود بل ومياه الشرب في أول الحرب، ما تسامحت معه "الديمقراطيات" الغربية بميولها العنصرية والصهيونية والفاشية، في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، طيلة أسبوعين كاملين.
وبما أنه من المستبعد أن تنجح إسرائيل في القضاء على المقاومة الفلسطينية بشكل مطلق، فقد يتم استخدام "إعاشة غزة" في أي صراع مستقبلي من جانب إسرائيل في محاولة لإجبار الغزيين على النزوح نحو مصر.
ومن هنا فعلى مصر إعادة التفكير في علاقتها بغزة لتنتقل من الإصرار على عدم المشاركة في إدارة أو إعاشة القطاع، إلى الفصل بين المسألتين؛ إدارة مصر قطاع غزة، ولعب دور في إعاشته مستقبلًا.
ومع الرفض القاطع لإدارة القطاع تحت أي ظرف، واستمرار التأكيد على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، فإن الاضطلاع بدور في إعاشة القطاع سيمنح مصر أوراق ضغط في مواجهة سيناريوهات التهجير القسري، التي من المرجح أن تحتل موقعًا متزايدًا في مخيلة اليمين الإسرائيلي الحاكم، لأنَّ تناقضات المشروع الإسرائيلي جغرافيًّا وديمغرافيًّا وأيديولوجيًّا وسياسيًّا بلغت حدَّ الانفجار على عدة أصعدة وبالتزامن، ما يعني أن الحلول ستكون أشد يأسًا وعنفًا.