في مقابلته الثانية مع بيرس مورجان، أخذ باسم يوسف يعدد أشكال التشويش على قضية فلسطين وحصارها في الغرب، ثم اختتم بعبارة توضح حجم الحصار "حتى عندما ذهبت إلى الآلة، ChatGPT، قال إنها مسألة معقدة".
استدعت عبارة باسم اختبارًا أجريته قبل انفجار غزة بوقت طويل، عندما وصل جدل الذكاء الاصطناعي إلى عالمنا العربي متأخرًا شهورًا عن تاريخ إطلاق تطبيق ChatGPT في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وكان هناك تهويل في قدرة هذا التطبيق على إلغاء الكثير من الوظائف، ووصل الحد إلى قدرته على كتابة الشعر والرواية.
أحسست بالقلق المزدوج، على وجودنا كجماعة بشرية تقف في آخر صف التكنولوجيا، وعلى حرفتي الروائية. دفعني ذلك الخوف إلى إجراء اختبارات عبر برنامج مايكروسوفت للدردشة Microsoft Bing، وهو صورة طبق الأصل من برنامج ChatGPT 4 مع بعض القيود وضعتها مايكروسوفت ضد المحتوى المسيء.
حاولت تقصي وضع القضية الفلسطينية لدى الفيلسوف الآلي. ولم أسأل السؤال الكبير عن القضية نفسها، بل سألت عن حق الملكية للفلسطيني. دفعني لهذا السؤال أن الحرب الأهدأ كانت دائرة، وهي حرب نزع ملكيات الفلسطينيين التي تنشط وتهدأ بالتبادل مع الحملات العسكرية. يضاف إلى ذلك أنني أردت الذهاب إلى قضية واضحة لا يجب أن يتسرب إليها الشك في الغرب، لأنَّ حق الملكية الفردية في الليبرالية مقدس، قضية إيمان يحميها القانون.
لو كنت إسرائيليًّا سأظل مرعوبًا من أنَّ الاحتلالين الاستيطانيين اللذين رافقا اختراع الكاميرا زالا
الحوار طويل جدًا، لا يمكن عمليًّا نشره هنا، لأنه تكرار ودوران في النقطة ذاتها، لكنني سأفرِّغ سؤالًا واحدًا وجوابًا كمثال، ويستطيع القارئ المهتم أن يجرب بنفسه حوارًا آخر مع الآلة. ولكن بعد مراوغات الأسئلة الأولى، سألت: ما هو القانون الدولي الذي تستند إليه إسرائيل في نزع أراضي الفلسطينيين؟
جواب الآلة: القانون الدولي الخاص بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني معقد ومتشعب ولا يمكن تفسيره بشكل كامل في إجابة واحدة. ومع ذلك فإن هناك عدة مصادر للقانون الدولي التي تتعلق بالصراع، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية والأمم المتحدة والمحاكم الدولية. وبشكل عام فإن القانون الدولي يحظر مصادرة الأراضي بالقوة. ويحظر أيضًا نزع الأراضي دون تعويض، ومع ذلك فإن هذا الموضوع مثير للجدل، ولا يزال يثير الكثير من الانقسامات في المجتمعات المحلية والدولية.
حرب القصص
هل علينا أن نصدِّق الآلة في أن هناك قانونًا دوليًّا خاصًا بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟ هل يُشرَّع القانون لحالة معينة دون غيرها؟ ربما تقصد الآلة القرارات الدولية وليس القوانين الدولية؟ في هذه الحالة لنا أن نسأل: هل قرارات الأمم المتحدة بشأن الصراع عصية على الأفهام بحق؟
الحوار بمجمله مثير للدهشة، لأن كل الإجابات لأسئلتي المتكررة بصيغ مختلفة حول حق الملكية لم تظفر سوى بهذه الدائرة المفرغة وكلماتها المفتاحية: الخلافات والجدل والتشعب.
يُمارس الذكاء الاصطناعي تضليلًا عميقًا، ليس لأنه شرير بل بسبب الشر الموجود في نفوس البشر. هذا الجيل من محركات البحث يختلف عن جيل المحركات الأول مثل جوجل، فهو يدخل أوتوماتيكيًّا على كل قواعد البيانات المتوفرة على شبكة الإنترنت ويصوغ بنفسه إجابة من كل المتاح.
يمكن تشبيه مخزن الكلام المتاح لتطبيق المحاورة الإلكترونية بمقلب القمامة؛ ساحة ضخمة للنفايات العضوية والمعادن الرخيصة والبلاستيك. في المقلب خاتم زواج ذهبي عزيز على صاحبته تم كنسه بالخطأ، وشوكة وملعقة فضية، لكنَّ هذا القليل الثمين لا يمكن أن يظهر ضمن وفرة الفضلات الخسيسة.
باختصار، لا يصنع الذكاء الاصطناعي قصته بل يصوغ من القصص المتاحة. الأخطر أنه يُخرج أجوبته كبيانات موضوعية، بينما تعرض محركات البحث الأقدم المقالات ممهورة بتوقيعات أصحابها، فتجعلنا على وعي بأن ما نقرأه يمثل شخصًا واحدًا لنا أن نتفق أو نختلف معه.
الاستطراد عن الذكاء الاصطناعي ربما لا يكون مفيدًا؛ لكنه مرآة للتضليل المتراكم في قصص زائفة عن الصراع الفلسطيني مع دولة الاستيطان.
حرب القصص هي الحرب الأهم في الوجود، لأنها تُعطِّل ملكات النقد لدى المتلقي، لذلك لم تستغنِ الأديان عن القصة ولم تستغنِ عنها الفلسفة. ومنذ تأسيسها كانت إسرائيل واعية بأهمية فرض قصتها ومنع القصة الفلسطينية من الظهور. في المقابل لم يمنح الجانب الفلسطيني والعربي السرد الاهتمام الذي يستحقه.
كان رواة القصص الفلسطينيين يظهرون صدفة دون عمل مؤسسي مساند، وانتبهت إسرائيل إلى ذلك بشكل مذهل، فكانت تُصفِّي الرواة الجيدين. تصفية غسان كنفاني تؤيد هذه الفرضية؛ فلم يكن الشاب الوسيم مجرد روائي يكتب القصة الفلسطينية بل وجهًا تحبه الكاميرا ويتحدث الإنجليزية بطلاقة ولديه منطق يسهل تصديقه.
جانب من مقابلة أجراها غسان كنفاني مع الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون في بيروت عام 1970
إسرائيل هي الإصدار الأخير من استيطان الإنسان الأبيض في أراضي الغير، سبقتها بريتوريا في جنوب إفريقيا والاستعمار الاستيطاني لفرنسا في الجزائر لكنَّ أصل هذا النوع من استيطان الإبادة هو أمريكا وأستراليا. ولو كنت إسرائيليًّا فلا بد أنني كنت سأعيش مرعوبًا من مصير الوجود؛ لأن الاحتلالين الاستيطانيين اللذين رافقا اختراع الكاميرا وسهولة الاتصال زالا: خرج الفرنسيون من الجزائر وتفككت العنصرية في جنوب إفريقيا. لم تنجح سوى التجارب القديمة، لأنها بلا شهود نفي. وحده المستوطن الأبيض من يروي قصته، يُشيطن ضحاياه، ويعتبر قتلهم جهادًا في سبيل الله دون أن يجد من يُكذِّبه.
هناك قصة لكنها معقدة
التكنولوجيا التي قالت لباسم يوسف ولي إن المسألة الفلسطينية معقدة هي ذاتها التي جعلت إخفاء الرواية الفلسطينية بالكامل عملًا مستحيلًا. وهذا ما جعل الإسرائيليين وحلفاءهم يلجأون إلى الخطة البديلة وهي جعل القصة معقدة، لأن الإنسان عدو ما يجهل، وينصرف تمامًا عن متابعة ما لا يفهمه.
ولأن إسرائيل ليست مجرد استيطان يهودي، لكنها نقطة متقدمة للغرب في منطقتنا التي تتوسط العالم، فتقنياتها هي التقنيات ذاتها التي اتبعتها الولايات المتحدة في حروبها. رأينا على سبيل المثال كيف خرجت المظاهرات المليونية ضد قصف بغداد، ثم انصرف المواطن الغربي عن الأمر رغم أن القتل لم يتوقف، لكن قضية العراق صارت مسألة معقدة بين الشيعة والسنة. التعقيد نفسه طال الحالة السورية، فصار قصف الديكتاتور لشعبه بالبراميل المتفجرة شيئًا عاديًّا لأن داعش صارت هناك، ولا بدَّ أنَّ هذه البراميل موجهة لذلك الشيطان.
يجب أن نثق في ضمير البشر عندما يفهمون، لكنَّ ذلك الإنسان البعيد الذي يدور في تفاصيل حياته المرهقة ليس لديه الوقت ليعرف قصة صناعة داعش وقصة دخولها سوريا برعاية النظام نفسه بدلًا من الاستجابة لثورة الشعب.
وهكذا يمكننا أن نفهم أن حماس خُلقت لتُشيطَن وتجعل المسألة معقدة. كان وجودها مطلبًا إسرائيليًّا. ولا يجب أن نذهب جهة المعنى البسيط الذي يطرحه عرب يجدون أن شيطنة حماس تعفيهم من مسؤولياتهم؛ فيتحدثون عن تآمر للمنظمة مع الصهاينة. المسألة ببساطة أن إسرائيل رأتها تتشكل بسبب اليأس فغضَّت عنها الطرف، لكنَّ العبرة بالخواتيم. ومن يرقب خروج العفريت من القمقم لا يضمن إعادته إلى القمقم متى أراد؛ فأيُّ ظاهرة محورها الإنسان لا يمكن التحكم في مسارها لتصل إلى النهاية المأمولة.
كل جريمة جديدة قد تشفي أو لا تشفي غليل القادة الإسرائيليين لكنها تضيف دمارًا جديدًا للقصة الصهيونية
وقد أثبتت حماس يوم 7 أكتوبر أنها خرجت من الوظيفة التي هندستها لها إسرائيل من جانب واحد. وجاء الهجوم الكاسح في لحظة القضية فيها معقدة وغير مفهومة، وحماس مصنفة منظمةً إرهابيةً بشكل رسمي. ورأينا التداعي الأمريكي الأوروبي لنجدة إسرائيل بشكل هستيري، يعكس أكثر من أي وقت مضى أن إسرائيل جزء عضوي من السياسة الغربية، كما يعكس اطمئنانًا لدى الغرب إلى أن الانحياز السافر لإسرائيل لن يكلفه شيئًا؛ فليس هناك طرف ثانٍ في الصراع.
إسرائيل تواجه شعبًا أعزل يختفي بينه بضعة آلاف من المقاتلين، ولصعوبة الفرز يمكن إبادة الجميع.
ضمن تعقيد المسألة، اختفت حقيقة أنَّ الأرض الفلسطينية محتلة، وأنَّ مقاومة الاحتلال بكل الوسائل حق مشروع، فمن سيُفكِّر في الذهاب أبعد ليحلل كلمة "إرهاب" ويردها إلى أصلها اللغوي والسياسي، كوسيلة لإحداث أكبر دمار وفزع بأقل قوة، بصرف النظر عن التقييم الأخلاقي للطرفين. "الإرهاب" بهذا المعنى الأصلي وسيلة كل مقاومة، قبل أن يستقر كلمةً مرادفةً لحب الدم الهوسي والانحراف الديني.
يُلح الإسرائيليون على نعت حماس بـ"الداعشية" لاستغلال الإطار الجاهز في الغرب لصورة الداعشي، لكنَّ السلطة الإسرائيلية والغربية العجوز لم تدركا بعد المتغير الذي لم يعد جديدًا، وهو الإعلام الفردي، الذي تولى تفكيك القصة الإسرائيلية خلال ما يزيد على الشهر وتثبيت القصة الفلسطينية. وهذا التفكيك هو الذي أخرج المظاهرات بأرقام قياسية في الغرب كما في كل مكان.
ولأن الإعلام الغربي الجماهيري في النهاية حسبة خسارة وربح، فلم يعد بوسعه أن يعاند وعي متابعيه، وإلا تعرض للإفلاس. وقد بدأت بوادر الإفساح الجزئي للرواية الفلسطينية تظهر في قنوات وصحف لم تتطوع بفعل ذلك من قبل. حتى تصنيف حماس منظمةً إرهابيةً تحب الدم وتكره الحياة بدأ الشك يتسرب إليه، وبدأت زحزحته في الخطابات الجديدة بعد الأسبوعين الأولين من الحرب.
نجحت إسرائيل في فرض الحصار على كلمة "فلسطين" طوال 75 عامًا، ولم يهتز هذا الحصار تحت ضغط حرب أو سلام، لكنَّ هذه الحرب فكت الحصار، وصارت لفلسطين ملايين الأعلام مرفوعة في شوارع العالم، وكلُّ يوم إضافي في الحرب؛ كلُّ جريمة جديدة ضد الإنسانية قد تشفي أو لا تشفي غليل القادة الإسرائيليين، لكنها تضيف دمارًا جديدًا للقصة الصهيونية، وتضع مستقبل وجود هذا الكيان محل شك، لأن القصة الأصلية ليست بعيدة، وظهرت تصدعاتها على نطاق واسع.
في المقابل تتمتع القضية الفلسطينية بنقطة قوة بوصفها قضية ضمير، وقصتها تمتلك الأساس المتين المقنع الذي أُهمِل طويلًا، ويجب ألا يحدث ذلك مجددًا، وألا تعود القضية "مسألة معقدة".