في أوائل السبعينيات، خرج عالم الرياضيات والأرصاد الجوية إدوارد نورتن لورنز بفرضية "أثر الفراشة"، للإشارة لما يمكن أن تؤدي إليه حركةٌ متناهية الصغر في مكان ما، من أحداثٍ جسامٍ في مكان آخر. وفي أكثر تطبيقات هذه الفرضية شعبية وانتشارًا، فإن ضربة جناح فراشة يمكن أن تطلق سلسلة من التفاعلات تنتج إعصارًا على الجانب الآخر من الكوكب!
إذا استعرنا فراشة لورنز لتفسير ما تشهده مدن بريطانية الآن من أعمال شغب يمينية متطرفة، سنجد صعوبةً في تحديد الحدث المسؤول عن إطلاق سلسلة من التفاعلات التي أدت إلى هذا الصعود الحركي لتيار اليمين المتطرف في شوارع مدن المملكة المتحدة.
لكن هناك فراشات كبيرة يمكن النظر لها كأسباب لإطلاق إعصار اليمين المتطرف الذي اجتاح شوارع بريطانيا، ومن أهمها فراشة البريكست وفراشة الانهيار الداخلي لحزب المحافظين بعد 14 سنةً في الحكم، وبالطبع فراشة انهيار الخدمات العامة وتفاقم أزمات المعيشة على وقع ارتفاع التضخم.
كيف بدأت القصة؟
بدأت أعمال العنف بعد مقتل ثلاث طفلات تتراوح أعمارهن بين السادسة والتاسعة، في بلدة ساوثبورت الساحلية الأسبوع الماضي. الشرطة اعتقلت القاتل، ووفق القانون لم تكشف هويته. على الفور، انتشرت ادعاءات كاذبة على السوشيال ميديا بأن القاتل مسلم من طالبي اللجوء، بعد أن وصل إلى البلاد العام الماضي على متن قارب. وبالطبع لم تخل هذه الادعاءات من رسائل تحريض وكراهية عنصرية بحق المسلمين واللاجئين والمهاجرين في بريطانيا.
لم يكن إيلون ماسك ليفوت الفرصة لممارسة هوايته في التحريض وإشعال الحرائق لحساب اليمين الأمريكي
اندلعت أعمال العنف مع رواج نظرية مؤامرة تتهم الشرطة بأنها لا تريد كشف هويته لأنه بالفعل لاجئ مسلم، حتى قرر قاضٍ في ليفربول الكشف عن اسم الصبي الذي يبلغ 17 عامًا، ليتبين أن اسمه "أكسل موجانوا روداكوبانا"، وأنه مولود في العاصمة الويلزية كارديف ولكنه كان يقيم في قرية بانكس التابعة لمقاطعة لانكشاير، وأنه ليس مسلمًا.
مع ذلك لم تتوقف نظريات المؤامرة، لتتعدد الروايات بشأن هوية القاتل؛ مرة أردني، وسوري في مرات أخرى، وباكستاني وفق هتافات البعض. لكن بصرف النظر عن جنسيته أو أصوله العرقية، فجميع من شاركوا في أعمال الشغب متأكدون من أنه مسلم وأنه لاجئ!
ولأن أعمال الشغب اتسعت لتشمل ليفربول وليدز وبلفاست ومانشستر، ألقى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر خطابًا وصف فيه المشاركين في أعمال الشغب بأنهم "بلطجية متحركون"، حيث يقومون بالتنقل من منطقة لأخرى لإشعال الشارع!
الحل الذي طرحه ستارمر، أن تتشارك الشرطة في المقاطعات المختلفة المعلومات الاستخباراتية، وتنشر أنظمة التعرف على الوجه لتقييد حركتهم "قبل أن يتمكنوا حتى من ركوب القطار". كما حذر شركات السوشيال ميديا الكبرى قائلًا إن "الاضطرابات العنيفة التي تتم عبر الإنترنت هي أيضًا جريمة. إنها تحدث عبر مقار أعمالكم ويجب احترام القانون في كل مكان".
لم يكن إيلون ماسك ليفوت الفرصة لممارسة هوايته في التحريض وإشعال الحرائق لحساب اليمين الأمريكي، فكتب على شبكته التي يمتلكها، إكس، أن "الحرب الأهلية أمر لا مفر منه"، وهو يعلق على فيديو تطلق فيه مجموعة من مثيري الشغب اليمينيين ألعابًا نارية على الشرطة. وعندما كتب ستارمر على إكس واصفًا أعمال الشغب بأنها "عنف خالص" متعهدًا بعدم تسامح حكومته مع الهجمات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في اللحظة الحالية، رد عليه ماسك متسائلًا "ألا ينبغي أن تقلق بشأن الهجمات على *جميع* المجتمعات؟".
قلل ماسك منذ شرائه تويتر عام 2022 وتغيير اسمه إلى إكس، من الإشراف على ما يكتبه المستخدمون، حتى رسائل الكراهية. وفي عام 2023 أُلغي حظر حساب الناشط اليميني المتطرف تومي روبنسون على المنصة. ومع عودته، نشر الأسبوع الماضي رسائل كراهية وتحريض لمتابعيه البالغ عددهم 900 ألف، بينما كان يقضي عطلته في قبرص! ولم يحذف إكس محتواه ولم يحظره، الأمر الذي كانت ستفعله إدارة تويتر.
لكن رغم خطورة الدور الذي لعبته وتلعبه السوشيال ميديا في حشد وتحريض اليمين المتطرف لممارسة عنفه ضد كل من هو ليس أبيض، فإن الأكاذيب بشأن واقعة قتل الفتيات في ساوثبورت لم تكن وحدها هي من أطلقت هذا الوحش في شوارع المدن البريطانية.
يكذب.. ثم يفشل
الاستقطاب الحاد الذي شهدته بريطانيا في الشهور السابقة لاستفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، كان نقطة تحول في مسار تيار اليمين المتطرف، الذي استغل ذلك الاستفتاء المصيري لطرح مجموعة من الأكاذيب، عبْر رموز سياسية داخل حزب المحافظين مثل بوريس جونسون، ومستشاره الأهم دومينيك كامينجز، الذي أشرف على وضع الاستراتيجيات وصياغة الرسائل الرئيسية لحملة البركسيت.
أشهر هذه الأكاذيب اليمينية أن المملكة المتحدة ترسل 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيًا إلى الاتحاد الأوروبي، من الأَولَى إعادة توجيهها إلى خدمة الصحة الوطنية (NHS). وأن تركيا على وشك الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعني زيادة في المهاجرين الأتراك المسلمين. وأن ترك الاتحاد الأوروبي سيعيد لبريطانيا سيطرتها الكاملة على قوانينها وحدودها، وهي كذبة تجاهلت اضطرار بريطانيا للتفاوض على اتفاقيات ومعايير جديدة تتماشى مع القوانين الأوروبية، من أجل تسهيل تجارتها مع الاتحاد.
غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي رسميًا في 31 ديسمبر/كانون الأول 2020، مع نهاية الفترة الانتقالية التي بدأت في أعقاب استفتاء 2016. وفي اليوم التالي خرجت البلاد بالكامل من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك التاريخ لم تتحقق أكاذيب معسكر الخروج.
عصفت الإخفاقات والفضائح بحكومات حزب المحافظين المتعاقبة. أجبرت "فضيحة الحفل"/partygate أثناء الجائحة جونسون على الاستقالة أولًا. ثم أنهت خطة خفض التمويلات الضريبية التي طرحتها ليز تراس بحكومتها بعد أقل من 49 يومًا على تشكيلها، ولا يجد الحزب المأزوم خيارًا سوى ريشي سوناك، ليصبح رئيسًا لوزراء بريطانيا دون أن يفوز في الانتخابات العامة أو في انتخابات زعامة الحزب!
ليس يمينًا بما يكفي
بعد أربعة عشر عامًا من حكم المحافظين، تبخرت كل وعود الازدهار الاقتصادي ورفع مستوى الخدمات العامة، ليجد الناخبُ البريطاني التضخمَ يحاصره، وتحيط به المخاوف من ركود اقتصادي يقلل عدد الوظائف المتاحة. وساهمت أيضًا الانقلابات الداخلية التي عصفت بكل من ماي وجونسون وتراس في انخفاض شعبية المحافظين.
انشقاق نسبة كبيرة من ناخبي حزب المحافظين لصالح حزب الإصلاح اليميني كان نتيجةً حتميةً لنهج جونسون
هذه الأسباب أدت إلى خسارة المحافظين كتلاً كبيرة من قاعدتهم الانتخابية التقليدية، قررت ترك الحزب الذي يمثل يمين الوسط لصالح حزب الإصلاح الذي يمثل تجمعًا أشد يمينية من المحافظين، وهو يظهر عداءً أكبر للاجئين والمهاجرين والاتحاد الأوروبي.
وبالتالي، وبينما لم يفاجئ فوز حزب العمال في الانتخابات الأخيرة وانتقاله من مقاعد المعارضة إلى سدة الحكم أحدًا، جاءت المفاجأة من حزب الإصلاح اليميني المتشدد، الخيار الانتخابي المفضل لتيار اليمين المتطرف، عندما حل ثالثًا بعد العمال والمحافظين في عدد الأصوات التي بلغت 14%. لكن بسبب النظام الانتخابي البريطاني أخذ خمس مقاعد فقط في مجلس العموم! بينما استطاع حزب الديمقراطيين الأحرار الحصول على أعلى عدد له من المقاعد في مجلس العموم منذ عام 1923، حيث حصل على 72 مقعدًا، وذلك بعد حصولهم على 12% فقط من الأصوات ومجيئهم في المرتبة الرابعة بعد حزب الإصلاح!
الانقلابات الحزبية التي عصفت بالمحافظين منذ أن ترك ديفيد كاميرون زعامته عام 2016 في أعقاب خسارته لاستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مكَّنت الجناح الأكثر يمينية في الحزب، فصعدت أسهم شخصيات مثل وزيرة الداخلية بريتي باتيل وخليفتها سويلا بريفيرمان، التي تورطت في تقديم معلومات مغلوطة للبرلمان بشأن اللاجئين وهي تدعو للانسحاب من اتفاقيات جنيف الأوروبية لحقوق الإنسان.
في حوار مع صحيفة التايمز في مايو/أيار 2022، قالت بريفيرمان عندما كانت مدعية عامة "إذا تعرضت للسخرية وأثرت ردود فعل سيئة على تويتر، فحينها أعلم أنني أفعل الشيء الصحيح. تويتر عبارة عن مجاري لليساريين. إن كومة اليسار المتطرف غالبًا ما تكون رد فعل للقيم المحافظة السليمة".
وخلال سعيه تحت زعامة جونسون ليكون أكثر قبولًا لدى اليمين المتشدد، تبنى الحزب سياسات يمينية تجاه المهاجرين واللاجئين، ورفض أن يضع تعريفًا للإسلاموفوبيا أو يتخذ موقفًا ممن يتورطون فيها من داخل الحزب.
ووفق تقرير نشرته الجارديان في يونيو/حزيران 2019، أظهر استطلاع للرأي أن ما يقرب من نصف أعضاء الحزب لا يفضلون رئيس وزراء مسلم. كما وجد الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة YouGov، أن أكثر من ثلثي أعضاء حزب المحافظين يصدقون الأسطورة القائلة بأن أجزاء من المملكة المتحدة تخضع لقوانين الشريعة الإسلامية، وأن 45% منهم يعتقدون أن بعض مناطق البلاد غير آمنة لغير المسلمين!
لذا، كان انشقاق نسبة كبيرة من ناخبي الحزب التقليديين لصالح حزب الإصلاح، نتيجةً حتميةً لنهج رموز المحافظين خلال حكم بوريس جونسون، وجعلوا كتلًا انتخابية كانت مضمونة لهم تقليديًا، ترى أن الحزب لم يعد ينفذ أجندته اليمينية المتشددة بكفاءة تتناسب مع الخطاب الذي تبناه منذ البريكست!
أوهام تغذي أكاذيب
لا يملك اليمين المتطرف في بريطانيا خطابًا متماسكًا لحل أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة أو وضع بريطانيا على المسرح الدولي أو إعادة تنظيم علاقتها بالاتحاد الأوروبي. هناك فقط مجموعة من الأوهام الراسخة في وجدان أبنائه، مثل أن تحسن الاقتصاد مرتبط بطرد المهاجرين، وتحسن وضع بريطانيا دوليًا مرتبط أيضًا بطرد المهاجرين. وبالطبع فإنها ستكون الطرف الأقوى في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، عند طرد المهاجرين، والانسحاب من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان!
يعتقد اليمين المتطرف أن بريطانيا ستكون في وضع أفضل إذا تحالف مع اليمين الأمريكي، الذي يمثله حاليًا دونالد ترامب. كما يعتقدون أن التحالف مع الولايات المتحدة أهم لمصالح البلاد من أي علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي. لكنهم طبعًا يؤيدون التيارات اليمينية المتشددة في أوروبا ويعتقدون أن بإمكانها المساهمة أيضًا في انسحاب دولها من الاتحاد الأوروبي وربما انهياره.
بل أن نايجل فاراج زعيم حزب الإصلاح والوجه السياسي لليمين للمتطرف ذهب أبعد من ذلك في نقد المشروع الأوروبي عندما أشار إلى أن الغرب "استفز" روسيا ودفعها إلى غزوها لأوكرانيا، مع توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي ومعه الناتو، بضم دول في شرق أوروبا والاقتراب من المجال الحيوي الروسي.
لا يعتبر اليمين المتطرف نفسه متطرفًا بالفعل، ويعتقد أنه يعبّر عن قيم العائلة المحافظة في مجتمعه. من هنا تأتي معادة حقوق المثليين والحق في الإجهاض، اتساقًا مع رؤيتهم لأنفسهم كمسيحيين محافظين. ومثلما يجهرون بمعاداة الإسلام كدين والمسلمين كمواطنين، تنتشر أيضًا معاداة السامية في أوساطهم. لكن ذلك لا يمنعهم من إعلان دعمهم لكل مواقف الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة!
بريطانيا لدى تيار اليمين المتطرف ليست إمبراطورية تقبل بتنوع رعايا مستعمراتها، مثلما كان رموز حزب المحافظين ينظرون إليها حتى الحرب العالمية الثانية. وإنما بلدٌ محافظ انعزالي، يتحالف مع التيارات اليمينية الأخرى خصوصًا في الولايات المتحدة، في سبيل تحقيق المجتمع الأبيض المسيحي المتجانس الخالي من أي عرق أتى من خارج جزر المملكة المتحدة!
اليمين المتطرف في بريطانيا، كما في كل مكان، يؤمن بصدق أكاذيبه ليغذي بها أوهامه!