بمقدار ما تعانيه الحياة العامة في مصر من حصار، وبقدر القيود المفروضة عليها خلال السنوات السبع الأخيرة، يبدو استسلام المؤسسات المهمة والمؤثرة لمناخ التضييق هو الأخطر على الإطلاق.
في مطالعة ما تنشره الصحف بانتظام عن انتخابات نقابة المحامين العريقة على موقع النقيب العام وأعضاء المجلس ما يؤكد أنَّ هناك خللًا كبيرًا أصاب واحدةً من أهم مؤسسات المجتمع، لدرجة تكفي لفهم كيفية وطبيعة استسلام المؤسسات المؤثرة للحصار، وتجاهل دورها المهم في المجتمع، بل تناسي دورها نفسه الذي منحه لها الدستور حصرًا.
فوسط حصار شامل مفروض على الحريات العامة التي يحميها الدستور والقانون، ورغم تقارير منظمات المجتمع المدني التي تتحدث عن الآلاف من سجناء الرأي، خلت برامج غالبية المرشحين من الحديث عن الحريات ودولة القانون، وهي قِيم في صُلب عمل المحامين ونقابتهم، واكتفى غالبية المرشحين بعرض برامج تطرح الخدمات والمزايا المادية فقط، وكانت الطامة الكبرى أن البرامج خلت، في غالبيتها العظمى، من الحديث عن سجناء الرأي من المحامين أنفسهم، وبعضهم لا يزال محبوسًا منذ شهور أو سنوات.
في هذا التجاهل لأحد أهم الأدوار العامة التي تمارسها نقابة المحامين تخلٍّ غير مفهوم لا عن دورها في الحاضر فقط بل عن تاريخها أيضًا. وفي الصمت على هذا التجاهل خطر وخطأ وتسليم غير مبرَّر لغياب مؤسسة مهمة تدافع عن سيادة القانون وحقوق وحريات المواطنين.
عودة إلى التاريخ
بالعودة السريعة إلى جزء صغير من تاريخ النقابة العريقة، يمكننا التأكيد على أن أحدًا من نقبائها الكبار لم يتخلَّ عن دورها في الحياة العامة أبدًا، بل كانت النقابة قلب المجال العام في عصور جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك.
اختار الخواجة أن تعبّر النقابة عن موقف المحامين بغض النظر عن أي أثمان
الراحل أحمد الخواجة أحد أبرز نقباء المحامين كان واحدًا ممن رفضوا ما سُمِّي عام 1969 بـ"مذبحة القضاء"، عندما عُزل عشرات القضاة من عملهم وألغي مجلس القضاء الأعلى وحُلَّ مجلس إدارة نادي القضاة في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
كان الخواجة عضوًا في التنظيم الطليعي آنذاك، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من الانحياز لما يؤمن به من ضرورة استقلال القضاء، وعدم جواز تدخل السلطة التنفيذية في شؤونه، بصرف النظر عن الوقائع والملابسات والأسباب التي أطلقتها السلطة الناصرية وقتها.
وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات كان الخواجة، من موقعه نقيبًا للمحامين، أحد الذين خاضوا المعارك وضغطوا من أجل عودة مجلس القضاء الأعلى الذي أُلغي في عهد عبد الناصر، فضلًا عن مطالبات النقابة المستمرة بإنشاء المحكمة الدستورية العليا لتحافظ على نصوص الدستور وترسخ لحماية حقوق وحريات المواطنين، وتكون حكمًا بين السلطات في كل ما يتعلق بمخالفة النصوص الدستورية.
كما كانت معركة "رفض التطبيع" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي إحدى معارك عصيان السلطة التي دخلتها النقابة العريقة في مواجهة نظام السادات، وأدت لغضبه الشديدة عليها وعلى أحمد الخواجة شخصيًا، الذي اختار أن تعبّر النقابة عن المحامين الرافضين، مثل المصريين عمومًا، التطبيع مع إسرائيل، بغض النظر عن أي أثمان.
وضد مبارك، يحكي المحامي منتصر الزيات عن تعرضه وأربعة من المحامين للاعتقال بقرار من وزير الداخلية زكي بدر عام 1987، بعد أن تقدموا ببلاغ للنائب العام يرفض حملة اعتقالات عشوائية شنتها الوزارة ضد المحامين والناشطين السياسيين.
وعلى الفور، بدأت النقابة حملةً من الاتصالات والضغوط للإفراج عن المحامين الخمسة، ما اضطر وزير الداخلية إلى الإعلان عن الإفراج عن أربعة من المحامين المعتقلين والإبقاء على الزيات محبوسًا، ما رفضته النقابة على لسان نقيبها الخواجة بعد مؤتمر صحفي أعلن فيه مجلس النقابة الإضراب العام أمام جميع المحاكم في حالة استمرار اعتقال المحامين الخمسة، ليُطلق سراحهم جميعًا في انتصار لمجلس نقابة يدرك قيمة ومعنى المؤسسة التي يترأسها.
في الدفاع عن الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد لم تتراجع نقابة المحامين أو تختفي من المشهد العام أبدًا، وحتى ما قبل ثورة 25 يناير كان نقيب المحامين ينبري للدفاع عن المتهمين في قضايا الرأي.
نظرة على الحاضر
ينظم دستور عام 2014 عمل وإنشاء النقابات المهنية في مادتيه 76 و77، ويمنحها مساحات واسعة للعمل والحركة بعيدًا عن السلطة التنفيذية، وهو أمر يعني أنه أراد تحصين هذه المؤسسات وحمايتها من البطش والتنكيل لتستطيع ممارسة عملها في المجتمع دون خوف أو حصار.
في تخلي النقابة عن باقي أدوارها الأخرى كإحدى مؤسسات الدفاع عن الحرية خصمٌ مؤكدٌ من مكانتها
تنص المادة 76 على أن "إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي".
في هذه المادة ما يوفر للنقابات استقلالية تمنحها القدرة على التأثير، كونها مؤسسات تلعب أدوارًا مهمة في الدفاع عن "حقوق ومصالح أعضائها"، وفيها أيضًا ما يثير التساؤل بشأن تخلي المرشحين في برامجهم الانتخابية عن الحقوق التي ترسخها هذه المادة الدستورية، بعد أن جاءت خالية من أيِّ أحاديث بشأنهم.
في المادة 77 من الدستور تحصين جديد وضمانات جديدة للنقابات المهنية لتعمل بلا خوف حتى يمكنها الدفاع عن أعضائها وبالتبعية عن حقوق وحريات المواطنين؛ "ينظم القانون إنشاء النقابات المهنية وإدارتها على أساس ديمقراطي، ويكفل استقلالها ويحدد مواردها، وطريقة قيد أعضائها، ومساءلتهم عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم المهني، وفقًا لمواثيق الشرف الأخلاقية والمهنية. ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها أو تدخل الجهات الإدارية في شؤونها، كما لا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المتعلقة بها".
في الفقرة الأخيرة من المادة الدستورية تأكيد على "عدم جواز تدخل الجهات الإدارية في عمل النقابات"، وهو ما يضفي مشروعية على حق النقابات في الدفاع عن استقلالها وحرية وكرامة أعضائها، ويرفع عنها سيف الملاحقات والتخويف، ويجعل من "معارك استقلال قرارها" حقًا دستوريًا أصيلًا.
ثم إن المادة تؤكد أن للنقابات الحق في مراجعة كل القوانين المتعلقة بها وذلك كيلا تُستخدم في الإضرار بأصحاب المهن عقابًا لهم أو لنقاباتهم، ثم لأن أهل كل مهنة هم الأدرى بشعابها.
القراءة الصحيحة للدستور الذي يضمن حرية النقابات المهنية ويحصنها، ومقارنته مع خلو البرامج الانتخابية في نقابة المحامين من كل ما يشير إلى الاهتمام بهذه الأدوار المهمة، فيها ما يُقلق على مستقبل مؤسسة كانت تاريخيًا تتحمل الأدوار المهمة في الدفاع عن الحريات وعن دولة القانون، ومواجهة كل صور التمييز أو التعسف في استخدام السلطة للقانون.
صحيح أن الأحوال الاقتصادية الصعبة تجعل الأولوية في البرامج الانتخابية لكل ما يتعلق بزيادة الدخل المادي وتحسين أنظمة العلاج وزيادة المعاشات وغيرها، وهو أمر مهم ومفهوم، لكنَّ التخلي عن باقي الأدوار الأخرى للنقابة كإحدى مؤسسات الدفاع عن الحرية خصم مؤكد من مكانتها، ومن قدرتها على الإنجاز حتى فيما يتعلق بالقضايا المهنية والمعيشية لآلاف المحامين الذين يعانون أوضاعًا اقتصادية صعبة، تلك التي تعيشها الغالبية العظمى من المصريين.