ربما تكون أهمية وخطورة الحدث سببًا منطقيًا لتعتيم الإعلام الرسمي، ليس فقط على إضراب المحامين في كل أنحاء مصر الذي بدؤوه الخميس الماضي وأنهوه الأحد بالإفراج عن زملائهم الستة في مطروح، بل التكتم أيضًا على تجمعاتهم وحشودهم، وعلى جلسة الإفراج التي يُفترض أن تكون علنية. حجب الإعلام كذلك بيان نادي القضاة الذي اعتبره المحامون تهديدًا غير مقبول!
لكنَّ زخم حراك المحامين لم يأتِ من فراغ.
حراك مدني: 1994
لم يسبق على مدى قرابة ثلاثة عقود أن انتهت إضرابات ومسيرات المحامين في مصر، سواء تضامنًا مع أحدهم أو بعضهم في مواجهة مع السلطة التنفيذية، بتراجع المؤسسة الأمنية بتوجيهات سياسية واحتواء الوضع، منذ محاولة الداخلية التعتيم على تفاصيل مقتل المحامي عبد الحارث مدني، وهو بقبضة أمن الدولة في أبريل/ نيسان 1994، بتهمة نقل تعليمات من قيادات الجماعة الإسلامية في الخارج إلى أفرادها بالداخل، باعتباره محاميًا عنهم ومحسوبًا من قياداتهم.
فبعد حل مجلس النقابة، وقف نقيبها أحمد الخواجة مع كل زملائه باختلاف انتماءاتهم السياسية، والتزموا بالإضراب في كل أنحاء مصر، وأصروا على تشريح الجثة لإثبات التعذيب الذي أفضى للموت، إلى أن تحققت مطالبهم بتدخل رئاسي وتشكيل لجنة. وكان ذلك ضد رغبة الداخلية بعد اشتباكات مع الأمن في شوارع القاهرة والقبض على بعض المحامين، في أحداث نقلتها شبكات التليفزيون العالمية. وظل المحامون يقاضون الداخلية لثلاثة عشر عامًا تالية حتى حصلوا لعائلة زميلهم على أكبر تعويض مالي وقتها من الحكومة.
محامو مغاغة: 2013
لم يكن تظاهر واحتجاج محاميّ المنيا أمام محكمة مغاغة في مايو/ أيار 2013 تضامنًا مع زملائهم ضد مساواة المحامين بالمحضرين، بحجم وأهمية الحدث السابق أو الحالي. لكن أهميته تعود إلى أنه لم ينتهِ بإنصاف المحامين العشرين، المتهمين فيه بجنايات مخيفة بتعطيل سير العدالة، إلا بعد تسع سنوات، وبتدخل قيادات نقابة المحامين الحالية نفسها. وفي يوم 28 ديسمبر/ كانون الأول الماضي حُكم ببراءة نقيب المنيا الذي كان ضمن العشرين، مع الاكتفاء بالحبس سنة مع وقف التنفيذ للمحامين الـ 19 الآخرين، وهو ما اعتُبر حلًا مقبولًا من جميع الأطراف، لم يكن متاحًا من قبل.
تأجيل الفاتورة الإلكترونية: 2022
حين قررت مصلحة الضرائب في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلزام المنشآت الفردية، بما فيها المهنية لمكاتب المحامين والأطباء، بالتعامل في غضون شهر مع زبائنهم بالفاتورة الإلكترونية فقط، وبدءًا من منتصف ديسمبر/ كانون الأول، احتج المحامون وكانوا الأكثر تنظيمًا ونظموا وقفات احتجاجية عند نقابتهم مهددين بإضراب عام ووقف كل أنشطتهم.
ولم يمر أسبوعان حتى قررت الحكومة تأجيل فرض الفاتورة الإلكترونية على الجميع لأجل غير مسمى!
إضراب ومسيرة لمطروح: 2023
قبل أسبوعين، حكمت محكمة جنايات مرسى مطروح على ستة محامين بالسجن لسنتين والمراقبة لسنتين بعدهما لكل من الستة، بتهم "البلطجة" و"الاعتداء بالضرب" على ثلاثة من موظفي النيابة والمحكمة، وذلك بعد عشرة أيام فقط من الواقعة، قضاها المحامون محبوسون.
أنهى المحامون في كل أنحاء مصر إضرابهم العام، وعادوا ظافرين من مطروح
ثارت ثائرة محاميّ مطروح وانضمت إليهم النقابة العامة بأكملها محتجة على حبس وسرعة معاقبة المحامين دون الموظفين، في اشتباك متبادل بالأيدي، وعلى أن أمر حبسهم احتياطيًا لم يكن صادرًا من النائب العام نفسه، كما يُلزم القانون.
ولم تفلح الاحتجاجات خلال حبس زملائهم فأعلنوا الإضراب العام في اليوم التالي مباشرة للحكم السريع والمقتضب في الإجراءات. شلَّ إضراب المحامين وتكاتفهم من أسوان إلى الإسكندرية ومطروح العمل في كل المحاكم الجنائية بالجمهورية. وبدأت مساعي الوساطة ومحاولة نزع فتيل المواجهة في وقت يمكن فيه لأي تجمع شعبي كبير أن يلهب ويحرك جماهير أكبر، تشكو من الغلاء أو أي مظالم أخرى.
وانطلقت وفود حاشدة من محاميّ مصر من أغلب محافظاتها للتجمع والتكاتف في مطروح مع زملائهم هناك، بينما أصدر نادي القضاة بيانًا يشير، ضمن نقاط أخرى، إلى أن لجنته الإعلامية ستراقب فيما يتعلق بمحكمة مطروح أي تجاوزات في السوشيال ميديا تمس القضاء وستُتخذ إجراءات بشأنها.
وبالإضافة إلى مشادة فردية وقعت وقتها في ملاهي دريم بارك بين أسرتي محامٍ وقاضٍ، ازداد التوتر والحاجة إلى إجراءات لنزع فتيل الموقف، كان من بينها سحب البيان من وسائل الإعلام التي نشرته في البداية.
وبالفعل، بعد ثلاثة أيام فقط من الإضراب العام والمسيرات لمطروح، يُفترض أن التصالح تم بين المحامين الستة المحكوم عليهم، والموظفين الثلاثة الذين سجلوا في الشهر العقاري سحب بلاغاتهم والرجوع عن شكواهم بالضرب.
ونظرت المحكمة يوم الأحد الماضي الاستئناف على أحكام السجن الصادرة قبل أربعة أيام فقط، وفي جلسة مغلقة اقتصرت على 11 من محامي المحامين الستة، على رأسهم نقيب المحامين عبد الحليم علّام، أُفرج عن المحامين بتغيير التهم لأخرى عقوباتها مخففة، سيُعلن عنها في الخامس من فبراير/ شباط.
وبالتالي، أنهى المحامون في كل أنحاء مصر إضرابهم العام، وعادوا ظافرين من مطروح!
حراك القانونيين ومواجهة السلطة
خلافًا لمهن ونقابات واتحادات أخرى، فإن حراك القانونيين لا يمكن اعتباره مجرد مطالب فئوية، بل هو خط التماس الأول بين حقوق الشعب وممارسات السلطة.
شأنهم شأن المحامين، اشتبك القضاة مع السلطة دفاعًا عن استقلاليتهم منذ استيلاء الضباط "الأحرار" على السلطة عام 1952.
وكما وقف نقيب المحامين عمر عمر في مارس/ آذار 1954 مع عودة الديمقراطية والحكم المدني تأييدًا لدعوة محمد نجيب ضد بقاء العسكريين بقيادة عبد الناصر، مما أدى إلى حل مجلس النقابة، وقف القاضي والفقيه عبد الرازق السنهوري في نفس الشهر مع الحكم المدني ضد عبد الناصر، فتم سحله وضربه بالأحذية.
ودفع القضاة الثمن مرة أخرى بانتخاب إدارة مستقلة لناديهم في مارس 1969 تناوئ تسييس عبد الناصر للقضاء، فقام في أغسطس/ آب من نفس العام بفصل قرابة مائتين منهم فيما عُرف بـ"مذبحة القضاء" التي جاء السادات فصححها كما نقضها القضاء بعد ثلاث سنوات. لكن السادات أبقى تراث عبد الناصر بسيطرة وزارة العدل على القضاء من خلال المحكمة العليا (الدستورية لاحقًا) والمجلس الأعلى للقضاء.
في الختام، المعركة ليست بين محامين وقضاة بل هي حراك شعب بكل طليعته ضد تغول السلطة التنفيذية ومحاولة تدخلها. لكن رغم تعتيم السلطات بإعلامها الموجه على هذا الحدث الجلل في يناير 2023، لكنه إعلام تقليدي عزف عنه الناس، وتمكنوا من معرفة ما يجري عبر السوشيال ميديا، كما عرفوا من كل محامٍ أضرب في أنحاء مصر أن الحقيقة لا يمكن إخفاءها، كالشمس لن يحجبها سوى من اختاروا أن يغضوا أبصارهم عنها، بينما يراها كل من تحرر من يد الإعلام المكبَّل!