كأنها ديمقراطية بجد!
بقدر الغضب الذي بدا ساطعًا الأسبوع الماضي ضد تعديل البرلمان لقانون هيئة قناة السويس، وبقدر فزع الناس وخوفهم من أن يكون القانون مقدمة لتمليك أو تأجير أجزاء من القناة للأجانب، كان للبرلمان جانب لا يخفى من الغضب.
في الأنظمة الاستبدادية تبدو المؤسسات المعنية بتطبيق الديمقراطية شكلية، ليس لها دور سياسي حقيقي وفاعل، بل مجرد صوت في الفراغ، يدعم ما تطلبه السلطة وينفذه بالحرف الواحد، ولا يهتم بسخط الناس أو غضبهم، ولا يتردد لحظة واحدة في اتخاذ أية إجراءات ما دامت السلطة قررت.
المؤكد أن سخط الناس على البرلمان الأسبوع الماضي كان جزءًا من انكشاف لعبة "المؤسسات الشكلية" التي لا تملك من أمرها إلا القليل، هذا القليل الذي لا يزيد عن المقاعد الفخمة التي يجلسون عليها، وبعض الكلمات والتصريحات التي تثير الشفقة أكثر مما تثير الغيظ.
في نصوص الدستور يبدو موقع البرلمان في النظام السياسي مهمًا، وتظهر صلاحياته مؤثرة، فالدستور يرسم الخطوط الفاصلة، ويمنح الصلاحيات التي تخلق التوازن السياسي التي لا تسمح بأن تنفرد سلطة بالصلاحيات دون الأخرى.
المادة 101 من الدستور المصري تنص على "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية".
كل هذه الصلاحيات المهمة للمجلس أن يمارسها بداية بسلطة التشريع التي يملكها منفردًا دون معقب، مرورًا بحقه في إقرار السياسة العامة للدولة وخطتها للتنمية ومراجعة الموازنة العامة والموافقة عليها، فضلًا عن حقه الدستوري في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، هذه الصلاحيات المهمة والواسعة يلغيها الحكم الفردي تمامًا ويحول مؤسسة البرلمان إلى مجرد "مجلس شكلي"، لا يراقب على السلطة، ولا يشرّع ولا يرفض تشريعًا، ولا يتدخل بشكل جاد في رسم السياسات العامة.
من هنا يواجه الغضب في كل حالة يكون التشريع فيها صادمًا وغير معبر عن وجدان الناس أو مصالحها، حدث هذا عندما مرر البرلمان عام 2017 اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية المعروفة باتفاقية تيران وصنافير، وحدث عندما تنازل البرلمان عن حقه في رفض اتفاق إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة الإثيوبي، ثم يحدث الآن في قانون هيئة قناة السويس.
المؤسسات الشكلية لا تقف عند حد البرلمان فقط، بل تمتد لتشمل أحد أهم أدوات النظام السياسي القائم دستوريًا على التعدد، وأقصد الأحزاب السياسية.
فبحسب موقع الهيئة العامة للاستعلامات بمصر 87 حزبًا، تتنوع بين الأحزاب اليسارية واليمينية، وبين العريقة والحديثة، وبين التي لا تعرف لها توجهات سياسية أصلًا، والتي لا تمثل فئات جماهيرية محددة، أو تمثل مصالح اجتماعية معينة، ومع ذلك فإن الجميع سواء ومتساوون في التحول إلى "مؤسسة شكلية" لا تقدم جديدًا، ولا تقوم بأي نشاط باستثناء حقها في فتح أكشاك لبيع المواد الغذائية بأسعار مخفضة، أو تقديم "كراتين" في مناسبات سياسية أو دينية.
بحسب الدستور فإن النظام السياسي المصري يقوم على التعدد، وبالتأكيد فإنه ليس هناك تعريف لهذا التعدد أدق من تنوع الأحزاب والقوى السياسية، وحقها في العمل السياسي وتقديم البدائل وطرح الرؤي والأفكار ومشروعات القوانين، وحقها في الترشح للانتخابات العامة، برلمانية ورئاسية، والوصول إلى تشكيل الحكومة وغيرها من صور العمل السياسي الجاد والحقيقي والصحي الذي يحدث في كل بلاد العالم.
أما في مصر ، حوَّل الحكم الفردي هذه الأحزاب إلى مجرد مسميات شكلية، فهي لا تستطيع تنظيم فعالية سياسية إلا بعد رضا السلطة، ولا تشارك في العمل السياسي ولا تطرح أفكار وبدائل، ومحاصَرة داخل مقراتها، إن امتلكت مقرات، ويتعرض أعضاؤها للملاحقات الأمنية والحبس الاحتياطي الموسع، ومع ذلك تصر السلطة في مصر أن لدينا أحزاب وأن هناك حياة سياسية جادة وغير شكلية.
فكأنه إعلام وكأنها برامج وصحف وقنوات ومواقع لكن الواقع يخالف كل هذا
بنظرة مدققة على النقابات المهنية سنكتشف أن "الشكلية" أيضًا طالتها، فرغم أن النقابات المهنية لها تراث طويل في عقد انتخاباتها الداخلية بحرية، وطرح الرؤى الخاصة بالمهن التي تمثلها، فضلًا عن دفاعها عن أبناء المهنة وحقهم في شروط عمل عادلة، فإن السنوات الأخيرة خصمت كثيرًا من هذه النقابات بعد أن تعرضت لحصار قاس، يكتم صوتها ويكبلها بقيود قانونية وإدارية تمنعها من حقها في القيام بدورها الذي يرسمه الدستور، والذي مارسته على مدار سنوات طويلة في الماضي، بل إن بعض أبناء هذه النقابات دخلوا السجون، وبعضهم ما زال فيها، باتهامات تتعلق بتهديد السلام الاجتماعي ونشر الأخبار التي تعتبرها السلطة كاذبة، فضلًا عن الكتابة بكل صورها.
ومع الوقت تحولت مجالس النقابات إلى ما يشبه العمل الاجتماعي وتقديم الإعانات المالية والتأمين الصحي، لكنها خسرت تمامًا دورها الجاد والطبيعي في الدفاع عن المهنة وحرية العاملين فيها، فضلًا عن دورها المجتمعي المهم الذي مارسته النقابات المهنية في مصر دائمًا وبدون انقطاع باستثناء السبع سنوات الفائتة.
عن الإعلام حدث ولا حرج، فكأنه إعلام وكأنها برامج وصحف وقنوات ومواقع لكن الواقع يخالف كل هذا بشكل واضح، بعد أن باتت المؤسسات الإعلامية مجرد أدوات شكلية تقدم ما يمكن اعتباره "نشرات رسمية" تصدرها السلطة، فلا صوت مخالف أو معارض ولا مقال جاد ولا تحقيق مهم ولا اسم واحد يمكن أن تلمحه من هؤلاء المغضوبين عليهم والمتهمين دائمًا وأبدًا بأنهم مشاغبون.
حصار الحريات الصحفية والقيود المفروضة على الإعلام حولته أيضًا إلى مجرد صوت يتحدث بلا جمهور وبلا مصداقية وبلا جدية، مجرد شكل جميل وجذاب تسيطر عليه السلطة بشكل كامل ويردد أفكارها ويرتضي بأن يظل في خانة المؤسسات الشكلية التي لا فائدة منها.
في الفرق بين المؤسسات الجادة والحقيقية والتي ينظم عملها الدستور وبين تلك المؤسسات الشكلية تمثل كلمة الديمقراطية الجوهر والقلب.
ففي الأنظمة الديمقراطية لكل مؤسسة دور مرسوم بوضوح، لا تستطيع سلطة أن تنتزعه منها، ولا يمكن لأي جهة مهما كانت أن تحولها إلى مجرد شكل وديكور سياسي، والعكس بالعكس، ففي النظم التي ترفض الديمقراطية ولا تسمح للحريات العامة والتنوع بتطهير المجتمع من عتمة الاستبداد تظل كل المؤسسات، على أهميتها، مجرد شكل بلا معنى، ومسميات بلا دور ومبانٍ فخمة بلا تأثير.