فليكر- Streets of Berlin
مظاهرات داعمة لفلسطين في برلين يوم 4-11-2023 نظمتها مجموعات فلسطينية ويهودية

ديمقراطية الغرب الزائفة.. حق يراد به باطل

منشور الاثنين 27 نوفمبر 2023

انكشفت قيم الغرب، وظهر زيف ادعاءات قادته عن الحرية والكرامة واحترام حقوق الإنسان.

كانت هذه واحدة من الجمل التي راجت وانتشرت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، وتعني أن الانحياز السافر للقادة الغربيين لعدوان دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة يشكك في ادعاءاتهم احترام حقوق الإنسان وحرية وكرامة الشعوب وحقها في الحياة.

 ما سبق من حديثٍ حق يراد به باطل.

المؤكد أن انحياز القادة الغربيين للعدوان على قطاع غزة كان سافرًا ومنحطًا لأبعد مدى، بل وصل الأمر في تقديري إلى أن هناك أربع عواصم غربية -على الأقل- كانت شريكة بشكل مباشر في العدوان، فواشنطن ولندن وباريس وبرلين كانت الداعم الأكبر والسند الأعظم لحرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني في غزة؛ مدته بغطاء سياسي يحميه من الملاحقة القانونية والدولية، ودعمته بالمال والسلاح، وزار قادة الدول الأربع الكيان المحتل في الأيام الأولى من الحرب، بل وتورطت تلك العواصم الشريكة في العدوان في ترديد أكاذيب المحتل في محاولة يائسة منها لإقناع الرأي العام العالمي بها، مثل تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن حركة حماس "قطعت رؤوس الأطفال" قبل أن يعود البيت الأبيض ويصدر تصحيحًا لما ردده رئيس الدولة الأكبر في العالم ويتهم الإعلام بالفهم الخاطئ لتصريحات الرئيس الأمريكي.

من رددوا عبارات الغرب الذي لا يؤمن بحقوق الإنسان هم الذين يودون التهرب من حق المصريين في المطالبة بالديمقراطية

كل هذا صحيح وأكثر، وكل الدعم الرسمي الغربي لـ"إسرائيل" كان تعبيرًا عن انحياز أعمى افتقد أي منطق قانوني أو إنساني أو أخلاقي.

ومع هذا فإن استخدام عبارات وتعبيرات من نوعية "الغرب الذي يدعي الإيمان كذبًا بحقوق الإنسان"، يبقى إسقاطًا على واقعنا أكثر منها رغبة في إدانة القادة الغربيين وموقفهم غير الأخلاقي.

معظم من رددوا عبارات الغرب الكاذب الذي لا يؤمن بحقوق الإنسان هم هؤلاء الذين يودون التهرب من حق المصريين في المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهم الذين يحاولون خداع البسطاء من الناس بأن الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان كلها أوهام تسقط بالاختبار كما سقط قادة الغرب في اختبار غزة بعد أن خالفوا كل القيم والمبادئ الإنسانية والحقوقية والأخلاقية.

في التعامل مع "الاتهام المعمم" للغرب بالعداء لحقوق الإنسان انقسمت النخبة في مصر إلى فريقين.

الأول غالبيته العظمى من أنصار السلطة الحالية وإعلامييها وما يسمى بـأحزاب الموالاة، هؤلاء أرادوا التعميم والتأكيد على أن كل حديث عن الديمقراطية والحريات العامة واحترام حقوق الإنسان ليس أكثر من أوهام أو شعارات كاذبة يرفعها الغرب للنيل من أمن واستقرار دولنا العربية، وابتزاز قادتها وحكامها، لكنها - حسب هذا الفريق - تبقى شعارات كاذبة وتسقط عند أي اختبار جاد وحقيقي، هذا الفريق لا يقصد أن ينال من القادة الغربيين بقدر ما يريد أن ينال من قيم الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان نفسها، ويستغل مواقف قادة الغرب المنحطة من العدوان على غزة في ترسيخ أفكارهم غير البريئة.

أما الفريق الآخر والأصدق، فرفض مواقف القادة الغربيين من العدوان، وانتقدها بعنف، وانحاز للشعب الفلسطيني ومقاومته دون مواربة أو غموض، لكنه في اللحظة نفسها كان دائم التفريق بين مواقف القادة الغربيين الخارجية الخاضعة لقوى وتوازنات دولية، وضغوط من لوبي صهيوني عالمي مؤثر، ثم برؤية هؤلاء القادة أنفسهم التي لم تفارق رؤية قادة الاستعمار القديم العنصرية للشعوب المحتلة ولدول الجنوب الفقير بشكل عام، وبين قيم احترام حقوق الإنسان والحرية والكرامة التي ترسخت في تلك المجتمعات وباتت حقوقًا مكتسبةً لا يمكن لأحد أن يغيرها أو ينال منها حاكمًا كان أو محكومًا.


في الحديث عن عدم إيمان الغرب بحقوق الإنسان وسقوط قادته في اختبار غزة لا يمكن أبدًا نسيان أن الديمقراطية واحترام الحق في الحرية والتظاهر كانت هي القيم التي أجبرت القادة العنصريين على تغيير مواقفهم.

مئات الآلاف من مواطني الشعوب الحرة تظاهروا في كبرى ميادين أمريكا وأوروبا رفضًا للعدوان ومواقف حكامهم الحمقاء الظالمة، بل يمكن القول إن الضغوط التي مارستها الشعوب الغربية عبر مظاهراتهم النبيلة المنحازة للإنسان كانت سببًا رئيسيًا في تغير موقف قادتهم من العدوان، والبدء في تبني خطاب سياسي أكثر توازنًا حتى وإن احتفظ بدعم العدوان بدرجات أقل.

الحرية والديمقراطية هما القيم التي سمحت للشعوب بالتظاهر والضغط، وهي ما أجبر أمريكا وبريطانيا على عدم إعاقة القرار الصادر من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بعد أن فشلتا في استخدام حق النقض "الفيتو" خوفًا من غضب شعوبهما، وهي القيم نفسها التي جعلت فرنسا تصوت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالموافقة على وقف إطلاق النار، وهي القيم نفسها التي أجبرت ألمانيا بالتراجع عن موقفها المتشدد لموقف أكثر توازنًا، وهي القيم نفسها التي أجبرت العواصم الأربعة التي كانت شريكة وداعمة للعدوان لتغير خطابها وترفض قتل المدنيين الفلسطينيين في غزة وعنف المستوطنين في الضفة الغربية.

في اللحظة نفسها التي سمحت الديمقراطية الغربية التي يهاجمها أنصار السلطة الحالية في مصر بالتظاهر والضغط الشعبي العالمي لصالح وقف العدوان وفرض الهدنة الإنسانية، كانت شعوبنا العربية تعاني من الاستبداد والقمع، ويحاصرها قادة غير ديمقراطيين خصموا قوة شعوبهم من معادلة الصراع والعدوان، فخسرت القضية دعمًا جادًا كان يمكن أن يحسب له العالم ألف حساب.

ليست الديمقراطية هي الأزمة، وليست مجرد شعارات، كما يحاول أن يصور البعض، إنها باختصار قدرة الشعوب على محاسبة ومساءلة حكامهم، وردهم إلى الطريق الصحيح مهما تمادوا في غيهم وانحيازهم الأعمى لعدوان لا يمكن وصفه إلا بـ"حرب إبادة"، وهنا تكمن التفرقة بين الحكام الغربيين وحماقة وانحطاط مواقفهم، وبين تلك القيم التي أثبتت الأحداث أن الشعوب تؤمن بها أكثر من الحكام، لأنها ببساطة تبقى هي القيم التي تضع الشعوب في كل المعادلات، وتجعل صوتهم وغضبهم هما كلمتي الفصل في كل القضايا والوقائع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.