في سباق الأيام المتبقية قبل نهاية العام وتولي الجمهوريين قيادة مجلس النواب الجديد في واشنطن، تمكن الديمقراطيون بأغلبيتهم الحالية من الحصول على إقرارات الذمة المالية والدخل المقدمة لمصلحة الضرائب من الرئيس السابق دونالد ترامب عن خمس سنوات، منها الأربع التي تولى فيها المنصب.
وقررت اللجنة التشريعية نشر الدخل ومصادره، وما سدده ترامب من ضرائب وما ادّعى أنه خسائر، بعد حذف البيانات الشخصية، مثل الرقم القومي وعناوين الإقامة.
كما نشرت اللجنة ملخصًا مبدئيًا يُبين، على سبيل المثال، أن ترامب، المتفاخر بأنه ملياردير ومن أنجح وأغنى رجال أعمال أمريكا، سدد نحو 800 دولار ضرائب عن أرباحه عن السنة التي انتُخب فيها (2016) بعد خصم ما ادّعى أنه تبرعات وخسائر وقروض أعطاها لأولاده.
أما في 2020، سنته الأخيرة في البيت الأبيض، فبلغت ضرائبه: صفرًا! نعم ادّعى في إقراره الضريبي أن مكاسبه تساوي خسائره أو نفقاته المتعلقة بأعماله. فمثلًا حين دُفع له قبل تولي الرئاسة 50 ألف دولار مكافأة كمتحدث بمؤتمر، خصم نفقات السفر للمؤتمر والإقامة بنحو 48 ألف دولار!
وبينما أقر الرئيس الملياردير بربح 30 مليون دولار في إحدى السنوات المعلنة، لم يدفع عنها ضريبة بـ"القانون" كما فسره جيش من محاسبيه القانونيين بشركاته التي تواجه تهمًا جنائية بالتهرب الضريبي في ولاية نيويورك، ولم يأت الدور بعد على مراجعة الضرائب الفيدرالية.
ولا يخضع مرتب ترامب السنوي كرئيس، وهو 400 ألف دولار، للضرائب لأنه سبق وأعلن أنه يتبرع به للأعمال الخيرية.
بالمقارنة، يعلن الرئيس الحالي جو بايدن كل عام عن إقراره الضريبي، ودخله، المتواضع نسبيًا، هو وزوجته. فبلغ دخلهما سويًا عن عام 2021 نحو 600 ألف دولار، ويشمل هذا راتبه السنوي 400 ألف دولار، دفعا ربعه ضرائب للحكومة، أي نحو 150 ألف دولار.
المشكلة مع ترامب أنه الرئيس الأمريكي الوحيد منذ السبعينيات الذي كسر العرف الذي بدأه الجمهوري ريتشارد نيكسون بالإفصاح للشعب عن إقراره الضريبي للدخل كل عام، رغم أن القانون لا يُلزمه بذلك، ولا ينص الدستور عليه.
رفض ترامب في حملته الانتخابية الأولى للرئاسة 2016، وحتى بعد توليه المنصب، التطوع بالإفصاح عن ذمته المالية وإقراره الضريبي السنوي، مخالفًا التقليد المتبع عرفيًا منذ نيكسون ومرورًا بكارتر وريجان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما ونائبه بايدن.
ولكن هناك قانون أمريكي يعود إلى عام 1924 يعطي للرئيس وبعض أعضاء الكونجرس المعنيين، بجانب مسؤولي الضرائب، حق الاطلاع على الإقرار الضريبي لأي مواطن أمريكي.
أعراف تصبح قوانين
بدأ الديمقراطيون في تحدي ترامب بمجرد فوزهم بأغلبية مجلس النواب في الانتخابات النصفية 2018 وطالبوا مصلحة الضرائب التابعة لوزارة المالية في عام 2019 إطلاعهم على إقراراته كرئيس آنذاك.
ماطلت الوزارة، بينما سارعت مصلحة الضرائب في بدء مراجعة ضريبية لإقراره السنوي، لإدراكها أنها تجاوزت عرفًا آخر مع نيكسون، بدأ منذ عام 1977 عقب فضيحة ووترجيت، بمراجعة الإقرار السنوي الضريبي للرئيس للتحقق من البيانات المقدمة، وهو ما لا يتم مع غالبية المواطنين، إلا ما يستدعي المراجعة، كالمبالغة في تقدير خسائر وتبرعات لاتتفق مع الدخل.
بعد ثلاث سنوات من المماطلات، ولجوء ترامب إلى المحكمة الدستورية لتحجب عن الكونجرس الحق القانوني في الاطلاع على ضرائبه لدى المالية، حكمت المحكمة لصالح الكونجرس ضده. مع أنه هو الذي اختار ثلاثة من القضاة فيها ومع أن تشكيلها الحالي 6 محافظون و 3 ليبراليون.
وحين حصلت اللجنة التشريعية الأسبوع الماضي على إقراراته لخمس سنوات (2015-2020) أدركت أن مصلحة الضرائب لم تبدأ مراجعة له إلا في النصف الثاني لرئاسته، بعد أن لاحقها الكونجرس بالاستفسارات.
بالتالي، أسرع النواب الديمقراطيون في أسبوعهم الأخير كأغلبية بالمجلس، إلى تمرير تشريع يُلزم قانونيًا مصلحة الضرائب الفيدرالية بمراجعة صحة الإقرار السنوي للدخل الذي يقدمه رئيس الجمهورية، وبالإفصاح عنه علنًا لكل الشعب، حتى لا يتكرر ما فعله ترامب من عدم التزام طوعي بالأعراف والتقاليد.
جاءت نتيجة التصويت بموافقة 221 ومعارضة 206. ولم يصوت مع الديمقراطيين لتمرير التشريع سوى ستة نواب من الجمهوريين. لكن التشريع سيظل مشروعًا حتى يوافق عليه بالمثل مجلس الشيوخ ليصبح قانونًا لا يمكن تجاوزه.
تعود الأمريكيون ألا يزحموا الدستور بالكثير من التفاصيل، مفضلين الالتزام الطوعي من السياسيين بالعرف والتقاليد. حتى مدد الرئاسة، لم يحددها الدستور في البداية، لكن كل الرؤساء الأمريكيين الذين جاءوا بعد الرئيس المؤسس جورج واشنطن حذوا حذوه، واكتفي كل منهم بفترتين لو أُعيد انتخابه، بينما حدد الدستور فقط مدة الفترة الواحدة بأربع سنوات.
وظل العرف قائمًا حتى الحرب العالمية الثانية التي استدعت ظروفها إعادة انتخاب الرئيس فرانكلين روزفلت لمرتين بعد الفترتين الأوليين، ومات في السنة الأولى من الفترة الرابعة، أي أنه حكم لثلاث عشرة سنة. بعدها مباشرة، أدخل الأمريكيون تعديلًا دستوريًا يحظر على الرئيس الحكم أكثر من ثماني سنوات، ولو لساعة واحدة.
مساع دستورية
على الجانب المصري، ليست المشكلة في عدم وجود قانون، فهناك مادة دستورية تلزم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وكل الوزراء بتقديم إقرارات الذمة المالية والإفصاح عنها، ولكن تكمن المشكلة في صعوبة التأكد من تنفيذ القانون وتلك المادة الدستورية بالشكل الذي صيغت به.
ففي دستور 2012 بعهد الرئيس مرسي، نصت المادة 138 على:
"يتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية، عند توليه المنصب وعند تركه وفي نهاية كل عام؛ ويعرض على مجلس النواب".
وبقدر المعلن، حتى من جانب ما يعلنه البرلمان، لم يتم العثور على إقرار الذمة المالية للرئيس مرسي. فالمادة جعلت الإفصاح للمجلس. مما خلق صعوبة معرفة الشعب بوثيقة محصورة ما بين الرئيس ومجلس النواب حين تكون غالبيته مؤيدة لحزب الرئيس.
وبما أن دستور 2012 أُقر بعد تولي الرئيس منصبه، لم يطلب أحد إقرار الذمة بأثر رجعي. ولم يكن هناك وقت لإقرار آخر في نهاية سنته الأولى، بسبب الإطاحة به وبالبرلمان الذي كنا سنعرف منه، إن أفصح عنها.
بالتالي حرص المشرعون عند وضع دستور 2014 على التشدد في صياغة هذه المادة، بحيث لايتركون تقديم الذمة المالية لمجلس النواب الذي قد تؤيد أغلبيته الرئيس فيتكتمون عليه. بل نصت المادة 145 على:
"ويتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفي نهاية كل عام، ويُنشر الإقرار في الجريدة الرسمية".
هكذا اعتقد مشرعو دستور 2014 أنهم أغلقوا الثغرات التي قد تكون مرت في دستور 2012، فالمسألة أصبحت في الجريدة الرسمية. ولكن ظلت المشكلة في كيفية ضمان حق الجمهور في معرفة الذمم المالية لرؤساء الجمهورية، لأن الأمر متروك بين مؤسسة الرئاسة وبين المطابع الأميرية، وهي هيئة حكومية تابعة للسلطة التنفيذية، ولا يمكن التأكد مما إذا كانت الهيئة المخولة بنشر الإقرار تسلمته لكنها لم تنشره أم لسبب آخر.
وفي عام 2018 أثار بعض الصحفيين المسألة، فنصحهم متحدث باسم الحملة الانتخابية بالإطلاع عليها على موقع الجريدة الرسمية. لكن لم يجد الصحفيون شيئًا على موقع الجريدة الرسمية، وذهب أحدهم إلى مكاتب المطابع الأميرية التي تنشر الجريدة لكن دون الحصول على إجابة شافية توضح إن كان هناك ما صدر عن الرئاسة ووصل للمطابع ولكن ربما لم يُنشر لسبب لا نعرفه!
إقرار فيسبوك
ولا ينص الدستور على إعلان الذمة المالية للرؤساء فقط، بل يشمل كبار المسؤولين. وتنص المادة 166 لدستور 2014 على:
"ويتعين على رئيس مجلس الوزراء، وأعضاء الحكومة تقديم إقرار ذمة مالية عند توليهم وعند تركهم مناصبهم، وفى نهاية كل عام، ويُنشر في الجريدة الرسمية".
ولم يعثر الصحفيون على أي إقرارات لأي وزراء فيما نشرته الجريدة الرسمية على موقعها.
بينما كان الأمر سهلًا حين لجأ رئيس وزراء من قبل إلى نشر إقرار ذمته المالية على الصفحة الرسمية لمجلس الوزراء المصري بفيسبوك.
لم يلجأ حازم الببلاوي، رئيس الوزراء الأسبق للجريدة الرسمية والمطابع الأميرية، فقدم إقرار ذمته المالية وما يملكه هو وزوجته عند توليه المنصب في أول أغسطس 2013 كما سبق أن قدمه قبل ذلك بعامين حين تولى وزارة المالية في سبتمبر 2011، ويشمل كل مدخراتهما وفي أي بنوك وعقاراتهما بل وكذلك سيارته الـBMW وسيارتها الهوندا.
بالتالي، قد تكون المشكلة في حق معرفة الذمة المالية بمصر هي أن واضعي دستور 2014 بحسن نية قَصَروا نشر إقرار الذمة المالية على "الجريدة الرسمية" بتعقيداتها البيروقراطية فيما تنشره، مع صعوبة البحث في الموقع بافتراض وضعها.
ربما نحتاج في الدستور المقبل، أو عند تعديله مرة أخرى، إعادة صياغة المادتين 145 و 166 لجعل نشر إقرار الذمة المالية يشمل مجلس النواب والجريدة الرسمية والسوشيال ميديا والمواقع الإخبارية، خصوصًا غير المحجوبة!