أسلوب حديث الرئيس السيسي في مؤتمر أبو ظبي الأخير مع المذيع الإماراتي فيصل بن حريز، وامتنانه واعترافه ببعض تفاصيل الفضل الشخصي لدور الشيخ محمد بن زايد في دعم "مصر" بعد أيام مما حدث في 3 يوليو/تموز 2013، قد يذكرنا بالفريق الليبي خليفة حفتر، حين أجاب عن سؤال مشابه من المذيع المصري يوسف الحسيني عمّن يدعم جيشه، المناهض للحكومة المدنية في طرابلس، فرد "لولا السيسي لما استطعنا الوقوف على أرجلنا ومواجهة الإخوان في مصر وليبيا".
الفارق في الإجابتين، أن أغلب الدعم الذي حصل عليه الحليف الليبي وما زال، يعود الفضل فيه للرئيس الإماراتي، نفس الزعيم المهيمن الآن على مقادير العالم العربي منذ يوليو 2013، والذي لا يتردد الرئيس السيسي في تكرار شكره كلما سنحت الفرصة.
لكن الشيخ ابن زايد لم يقف فقط مع وزير الدفاع المصري الذي أطاح بحكم جماعة الإخوان المسلمين قبل أن يصبح رئيسًا بعد ذلك. بل وقف الزعيم الإماراتي، الذي وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما بأنه أكثر قادة الخليج دهاءً، وقف بالمثل مع الأمير محمد بن سلمان حين كان وزيرًا للدفاع في السعودية، ودعمه بجانب إدارة ترامب التي صادقها وخاصم أوباما، حتى تمكن ابن سلمان بالمثل من الإطاحة بولي العهد محمد بن نايف، رغم علاقته القوية القديمة بالمؤسسات الأمنية الأمريكية.
أصبح ابن سلمان، كما أراده ابن زايد، الرجل القوي والحاكم الفعلي للسعودية، وشريكه في مهمة إجهاض الثورات الشعبية العربية، وتحديث الخليج بالطابع الغربي والأمريكي، وإنهاء الشراكة السعودية القديمة مع الوهابيين.
من المهم فهم رؤية ابن زايد لعالم عربي حديث، على النموذج الإماراتي، يرحب بالحداثة الغربية والانفتاح الاجتماعي ولكن ليس السياسي، بتبادل الرأي مع أفراد عائلته وعشيرته والأتباع في المجلس الذي يرأسه، ولكن ليس في برلمان أو انتخابات أو حقوق مواطنة، فالشعب أجهل من أن يحكم، بل سيحركه رجال الدين لتنفيذ أغراضهم السياسية.
بالتالي، علاقة ابن زايد بالدين ثقافية وروحية فقط، لذا يرحب بالصوفيين من أمثال علي الجفري وحمزة يوسف، لكنه يمقت أي إسلامي سواء كان من الإصلاح الإماراتي أو الإخوان المصري، أو حتى نموذج الإسلام التونسي للنهضة وزعيمها راشد الغنوشي، الذي يعتبره الغرب أقرب نسخة منقحة ومنفتحة في الإسلاميين.
خلافًا لشخصية الرئيس المصري المعروف بكثرة المقابلات والأحاديث التي يعشقها، كما ظهر في مقابلته الأخيرة مع المذيع الشاب فيصل طالبًا منه مد الحديث ومتوددًا، تأتي على النقيض شخصية المرشد العام للثورة المضادة للربيع العربي، الشيخ محمد بن زايد، قليل القول.. كثير الفعل!
المقابلة الوحيدة المعروف أنها أجريت معه كانت منذ ثلاث سنوات مع الصحفي الأمريكي روبرت وورث في بروفايل عن شخصه نشرته مجلة الملحق الأسبوعي لصحيفة نيويورك تايمز في 9 يناير/كانون الثاني 2020.
استخدم الصحفي البارع المقابلة ليس كسؤال وجواب، ولكن ليرسم من خلالها، بجانب مقابلاته الأخرى مع من يعرفونه خصوصًا من الدبلوماسيين والأمنيين الأمريكيين، صورة مرسومة له تحيطه الظلال، تحت عنوان "محمد بن زايد ورؤيته المظلمة للمستقبل"، يخلص فيه الصحفي إلى أن هذا الرجل يؤمن، ولو بمنطق تبرير سياساته، بأن العالم العربي ليس أمامه إلا خياران: القمع أو الفوضى الكارثية.
أما فيما يتعلق بمصر، فالسعودية لا تريد مواصلة ضخ أموال بلا جدوى في الاقتصاد المصري
ويعود بالقصة إلى تنشئة محمد الابن الثالث للشيخ زايد، من زوجته الشيخة فاطمة، وكيف أن والده عهد بالإشراف على تعليمه في صغره لمعلم مصري هو عز الدين إبراهيم، وكان من الإخوان المسلمين، وأثر عليه في البداية برؤية متعصبة للدين، عاتبه عليها والده نفسه فيما يتعلق بعدم التفرقة بين أديان الناس، فكلهم خلَف الله.
ومن تعليمه في الخارج بعد ذلك، وخصوصًا في كلية عسكرية خاصة في بريطانيا ثم خلال احتكاكه بالعالم تغيرت نظرته. وجاءت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وشارك في هجماتها إماراتيان من ضمن الـ19، لتحسم الأمر عند محمد بن زايد بخطورة الإسلام السياسي.
فبدأ بتعقب جماعة الإصلاح الإسلامية بالإمارات، وطرد الإسلاميين من الإخوان المصريين وغيرهم من العاملين بالإمارات. ووقف مع والده في إرسال قوة إماراتية للحرب مع الأمريكيين في أفغانستان. لكنه بدأ يخشى من دعوة بوش بعد 2004 إلى الحريات السياسية ونشر الديمقراطية في العالم العربي بديلًا عن الدكتاتوريات مثل نظام صدام حسين.
وازدادت مخاوف ومعارضة ابن زايد لهذا التوجه الأمريكي بعد خطاب أوباما في جامعة القاهرة عام 2009. مثلما احتج وحذر من دعم إدارة أوباما للثورات العربية خصوصًا بتشجيع الجيش في مصر على تنحية مبارك.
وينقل الصحفي عن دبلوماسي أمريكي قريب من حاكم الإمارات، ولم يشأ ذكر اسمه، أن ابن زايد بقدر مقاطعته وعدم دعمه للرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، باعتباره يمثل الإخوان المسلمين، ساهم في جهود الإطاحة به ودعمها، سواء بتمويل حركة تمرد، أو غير ذلك مما يتحرج الإماراتيون من ذكره حتى لا يُقال إن بلدهم الصغير غيّر نظام حكم أكبر دولة عربية!
تبدّل التحالفات
ينظر البعض لتغريدات أستاذ العلوم السياسية الإماراتي عبد الخالق عبد الله، وإن كان يحذفها أحيانًا، باعتبارها مؤشرات لما تريد أن تتفاخر به الإمارات، دون أن يُنسَب إليها ما قاله، رغم كونه أحد المستشارين السياسيين ببلده، فبعد دعم الإمارات لتغيير العديد من أنظمة الحكم في العالم العربي كتب المعلق الإماراتي يقول:
"بعد عقد من المواجهات الصعبة خرجت الإمارات منتصرة في المعركة ضد عبث الإخوان وتمكنت من وقف زحفه على امتداد الوطن العربي".
وحين غابت السعودية عن قمة أبو ظبي بينما حضرتها قطر والبحرين والأردن ومصر، التي تفاقمت الأزمة المالية لديها وتوترت علاقتها بالسعودية المصرة على شروط لأي قروض جديدة، كتب المعلق الإماراتي يوضح أن التحالف الرباعي السابق من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، الذي حاصر وقاطع قطر ثلاث سنوات، قد انتهى وهناك الآن تحالفات جديدة!
خلافًا لوضع مصر المالي المتأزم الذي يجعلها أكثر احتياجًا للدعم الإماراتي غير المشروط اقتصاديًا فقط، وليس سياسيًا، أي بدعم حاكم وتوجه محدد، فإن موقف السعودية مختلف. لم يعد يحتاج حاكمها الفعلي الجديد لمواصلة المسيرة وراء راية ابن زايد.
صحيح أن كليهما متفق على رؤية سياسية عامة، بسعودية ابن سلمان شأن إمارات ابن زايد في الحداثة الغربية والانفتاح الاجتماعي مع الانغلاق السياسي في الممارسة والحريات ومعاداة الإسلاميين، لكن ابن زايد لم يكمل المسيرة في حرب اليمن مع السعودية لأن أهدافه تحققت بتأمين ميناء عدن والملاحة، ولا يعنيه دعم جماعة الإصلاح اليمنية لخلفيتها الإسلامية ولو كانت في السابق.
كما أن الإمارات لا تريد للصراع مع إيران أن يصل إلى حد حرب ستكون الإمارات واستقرارها أول ضحاياها، هذا بجانب التقارب الإماراتي مع النظام السوري خلافًا للموقف السعودي.
أما فيما يتعلق بمصر، فالسعودية لا تريد مواصلة ضخ أموال بلا جدوى في الاقتصاد المصري، سوى بإكمال حصولها على جزيرتي تيران وصنافير من مصر، والمعلقة لترتيبات تريدها إسرائيل من السعودية كورقة ضغط للتطبيع. إذن، تنظر السعودية لنفسها بقدراتها الجغرافية والاقتصادية والسكانية بشكل مختلف عن الوضع الذي ارتضته مصر لنفسها في السير وراء خطى ابن زايد ودولته التي لا يتعدى عدد مواطنيها مليون نسمة!
ولا مانع لدى حاكم الإمارات من أن يواصل ضخ أموال ودعم سياسي للاقتصاد المصري، طالما ليس أمامه من بديل آخر لعدم خسارة اكبر مشروع سياسي راهن عليه في المنطقة. لكن المشكلة، أن سياسة ابن زايد الداخلية نجحت في الإمارات بإثراء المواطن مقابل السكوت عن حقوقه السياسية، لكن ليس لديه ما يكفي من دعم مالي إماراتي لسد حاجة ملايين المصريين الجائعين ليسكتوا ويقبلوا بمعادلته: القمع بدلًا من الفوضى!