حين رسمَ الرئيس السيسي قبل ثلاثة أعوام خطًا أحمر في ليبيا يمتد من سرت شمالًا إلى الجفرة جنوبًا، لا تتعداه القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس وإلا تدخلت مصر، كان ذلك دفاعًا عن المجال الحيوي للأمن القومي.
لم يتحدث أحد وقتها عن خطورة مثل تلك الخطوط التي قد تورط مصر في "حروب استنزاف" تتآمر بعض القوى العالمية لدفعنا إليها ليجعلوا مصر تسقط في مستنقع حروب خارجية كما حدث في الستينيات مع تورطها في اليمن.
وبعد أقل من عام على الخط الأحمر المُعلن في ليبيا، الذي لم تتطور الاشتباكات ليتم اختبار ثمن تجاوزه، أعلن الرئيس السيسي في مارس/آذار 2021 عن خط أحمر آخر في إثيوبيا.
فقبل ثلاثة أشهر من الملء الثاني لسد النهضة، قال الرئيس السيسي إن "مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خط أحمر وسيكون رد فعلنا حال المساس بها أمرًا يؤثر على استقرار المنطقة بالكامل". بعدها قامت إثيوبيا بالملء الأول دون تنسيق مع مصر.
وفي يوليو/تموز 2021 أعلنت إثيوبيا بتحدٍّ أنها أكملت الملء الثاني بكمية 13.5 مليار متر مكعب من مجموع المياه المحتجزة خلف سد النهضة. لكن مسؤولي المياه في مصر وعلى رأسهم وزير الري محمد نصر علام نفوا أن تكون إثيوبيا قد احتجزت هذا الكم. والذي معناه المساس بالحصة المصرية والخط الأحمر. وكان الرد المصري أن ما تم احتجازه لم يتجاوز مجموعه في الملئين 8.5 مليار متر مكعب!
بعد عام آخر، وفي فيضان الصيف الماضي 2022 تحدت إثيوبيا مصر مرة أخرى وأعلنت أنها أكملت الملء الثالث لسد النهضة بإجمالي 22 مليار متر مكعب من مياه النيل. أما مصر، فلم تعد تتحدث عن حقوقها في حصتها من مياه النيل بل ضرورة توفير حصة مياه، وبالتالي أعلنت عن مشروعات بديلة أدت إلى توفير 13 مليار متر مكعب من تحلية مياه البحر. ولم يعد هناك حديث عن خط أحمر مع إثيوبيا.
وعاد الحديث عن المنطق الحذر بعدم التدخل العسكري، حين دعا إليه البعض، ضد إثيوبيا لمنع استكمال سد النهضة دون الالتزام بالتنسيق مع مصر في بنائه وترتيبات ملئه. قالوا وما زالوا يرددون: مصر أذكى من أن يجرها أحد لحرب خارج حدودها.
وهذه الأسطوانة الحكيمة نسمعها الآن تجاه ما يحدث في السودان، رغم أن أحد طرفي الصراع بث فيديوهات لمجندين مصريين محتجزين. وحتى بعد أن أعلن قائد ذلك الفصيل، محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، استعداده للانضمام إلى أي جهد حربي لـ"استعادة" حلايب وشلاتين، منتقدًا قيادة الجيش السوداني ومتهمًا إياها بالتفريط في سيادة السودان.
ولكن الرئيس المصري تحدث وهو يرأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن استعداد مصر للوساطة "دون تدخل" بين الطرفين المتنازعين.
السؤال هنا: ما الفارق بين ليبيا التي لم تتردد القيادة المصرية في مد خط أحمر بطولها والاستعداد لدخول حرب فيها، والسودان الذي نكتفي فيه بعرض الوساطة ونقبل التهميش على مستوى الأطراف الإقليمية المسموح لها بالتفاوض والتوسط، كالرباعية التي تضم مع الولايات المتحدة وبريطانيا، كلًا من السعودية والإمارات، وهي كلها دول لا تملك حدودًا برية مع السودان، ناهيكم عن جنود وطائرات ومعدات؟
لم تجد أديس أبابا المدعومة إماراتيًا ردًا على تجاوزها الخط الأحمر مع استمرارها في عمليات الملء الأحادي
الأمن القومي للإمارات أم لمصر؟
لا أجد تفسيرًا في الحالتين سوى موقفنا من الطرف الذي تدعمه الإمارات في ليبيا من ناحية والسودان وقبله وبعده إثيوبيا من ناحية أخرى. بمعنى أنه حين يكون الطرف الذي نقف معه مدعومًا بالمثل من دولة الإمارات، يسهل مد الخطوط الحمر والاستعداد للتدخل العسكري، بشكل يُظهر أن هناك تطابقًا بين الأمن القومي لمصر والإمارات.
هذا ما وجدناه في ليبيا والخط الأحمر المعلن في صيف 2020 من سرت إلى الجفرة، لأنه يأتي لصالح قوات الجنرال خليفة حفتر المدعوم إماراتيًا، الذي ربما لا تربطنا به مصلحة استراتيجية سوى صداقته مع الإمارات، وبالتالي فصديقها وحليفها صديقنا بالمثل!
بينما حين تعلق الأمر بصلف الحكومة الإثيوبية، ومخاطر عدم التزامها بالترتيبات العادلة لملء سد النهضة، وفق اتفاق مجحف تم بوساطة إماراتية ورطتنا فيما عُرف باتفاق المبادئ، لم تجد أديس أبابا المدعومة إماراتيًا ردًا على تجاوزها الخط الأحمر مع استمرارها في عمليات الملء الأحادي.
بل خرج علينا حكماء التوازن والعقلانية وعدم التورط لإفشال المؤامرات الخارجية ممن يريدون توريط الجيش المصري واستنزافه. حتى حين كان الاتحاد الإفريقي المتحيز لصالح إثيوبيا مهمشًا في فترة رئاسة الجمهوري ترامب، صديقنا المفضل، الذي استغرب علنًا: كيف لا تقصف مصر هذا السد؟ لم نفعل شيئًا وانتظرنا حتى يأتي الديمقراطيون المتأثرون بجماعة ضغط النواب الأفارقة الأصل بالكونجرس، فأعطوا ثقلًا أكبر للاتحاد الإفريقي في تلك الأزمة. وكأنه عذر أردناه بصعوبة الضغوط الدولية، بينما الاعتبار الوحيد الواضح والمتواصل هو أننا لن نعادي أصدقاء الإمارات وحلفائها، حتى لو منعوا عن هذا الشعب ماء النيل!
الأمر يتكرر أمام أعيننا الآن في السودان، وبتحالفٍ إماراتي إثيوبي وبدعمٍ حتى من ميليشيات الحليف الليبي حفتر وقواته، لصالح قوات أو ميليشيات الدعم السريع للقائد الحليف السوداني حميدتي. عادت لغة "التوازن" و"عدم التدخل في الشؤون الداخلية" والانتظار والثقة في "حسن النوايا" و"الوسطاء" إلى البيانات الرسمية المصرية، حتى في ظل احتجاز مجندين.
ميزانية الحياد وعدم التسلح!
هناك منطق مقبول لدى الدول التي تقرر الانكفاء على نفسها لتحسين وضعها الاقتصادي وتوفير مستويات معيشة وتعليم وصحة أفضل لشعوبها، بدلًا من نزيف الإنفاق العسكري، حتى لو كان التسلح مصدر قوة ودخل في حد ذاته.
هذا هو الخيار الذي يبدو أن الرئيس السادات فضّله منذ أعلن مبكرًا حرب أكتوبر آخر الحروب، ثم وقّع سلامًا فرديًا مع إسرائيل، مفضلًا التحالف مع أمريكا حتى لو خسر كل الدعم العربي، من الدول التي بدأت عائداتها البترولية تقفز وتفيض بعد استخدام البترول كسلاح في الحرب.
لم تحارب مصر فعليًا منذ خمسين سنة، وإن شاركت رمزيًا أو جزئيًا في حربي أمريكا ضد العراق. ورغم ذلك، تضاعفت مشترواتها العسكرية خلال السنوات الثماني الماضية لتزيد عن خمسين مليار دولار، أي ثلث مجموع الدين الخارجي الذي تئن مصر وشعبها من أوزاره.
إن كانت كل هذه الأسلحة والعتاد لن تستخدم إلا ضد أعداء السعودية والإمارات، فعلى الأقل، وبلغة المصالح المادية الباردة، مطلوب فقط أن يدفع أصحاب ومحددو الأمن القومي الإقليمي وراسمو الخطوط الحمراء لعالمنا العربي، سواء من بني زايد أو بني سلمان أو حتى قحطان وفُلان وعِلّان من باقي الأشقاء والإخوان، نفقات هذا السلاح، وأن يسددوا كل ديونه، وأن يشكروننا صباح مساء على ما نفعله لهم، بدلًا من لغة المنِّ والإحسان، وكأنهم يفعلون بنا خيرًا، وليس العكس: وهو أنه لا ناقة لنا ولا جمل في حروبهم الإقليمية التي لم تعد قومية، بعد انضمامهم إلينا في صلح كامب ديفيد، بالاتفاقيات الإبراهيمية.