نقلت المنصة الجدل الذي أثارته الصورة التي نشرها اللواء متقاعد سمير فرج، أول من أمس على فيسبوك، وهو يحاضرُ في الكلية الحربية، دفعةً من الملحقين الدبلوماسيين الجدد، يرتدون زيًّا "كاكي" موحّدًا، قبل بدء عملهم بوزارة الخارجية.
هذا الزي الموحد، الذي وصفه المدنيون بـ"الزي العسكري"، فيما سمّاه اللواء المخضرم، الذي كان قائدًا للرئيس السيسي "زي الكشافة"، لا يبدو أنه مصمم للفتيات، فكُنَّ ومعهنَّ الشباب أيضًا في حالة تُناقِضُ الصورة الذهنية لأناقة الدبلوماسيين، كرمز للمدنية والحداثة ومواكبة دور الأزياء العالمية.
لكن ربما تكون هذه الصورة والتدريبات المحيطة بها للدبلوماسيين الجدد بالكلية الحربية أقل بكثير في تأثيرها على العمل الدبلوماسي المصري، الذي تجاوزت تقاليده المدنية مائة عام منذ 1922، مقارنة بما تعرضت له الخارجية في أول عقدين من تولي "الضباط الأحرار" حكم مصر، من حيث ترقية العسكريين ليصبحوا سفراءها، بل ووزراءها.
التدريب العسكري للجمهورية الجديدة
ربما تكون الخارجية المصرية أبرز وأوضح مظاهر التدريب العسكري للمدنيين قبل تولي وظائفهم في وزارات بعيدة عن العمل العسكري، لكنها ليست الوحيدة. ففي الفترة الثانية لرئاسة الجمهورية حرص المشير السابق عبد الفتاح السيسي على أن يتم تدريب أغلب الملتحقين بوزارات الدولة سواء في الكلية الحربية أو الأكاديمية الوطنية للتدريب.
بل نقل التليفزيون عدة مرات كيف شارك الرئيس السيسي في اختبارات الذين سيلحقون بوزارات مدنية بعد تدريبهم عسكريًا مثل وزارة النقل، المكلف بها اللواء كامل الوزير. وحتى القضاة يتعين عليهم قضاء تدريب بجانب تدريب وزارة العدل في الأكاديمية الوطنية، بمحاضرين عسكريين وغيرهم من الأمن القومي.
كان تدريب وزارة الخارجية المصرية يتم لمدة عام في المعهد الدبلوماسي التابع للوزارة، بعد مسابقة عامة تتضمن اجتياز اختبارات كتابية وشفهية صعبة، لم يتمكن من اجتيازها أحد أبناء الرئيس السيسي قبل توليه الحكم، كما روى بنفسه في مقابلة تليفزيونية.
لكنَّ الرئيس قرر ليس فقط أن تمنح الكلية الحربية بكالوريوس الاقتصاد أو العلوم السياسية، بل وأيضًا أن يتم تدريب الملحقين الجُدد لوزارة الخارجية، وأغلبهم من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجانب كليات مدنية أخرى، لمدة ستة أشهر، من عام تدريبهم بالمعهد الدبلوماسي، في الكلية الحربية، يرتدون زيها الموحد، ويُعاملون مثل طلابها العسكريين من حيث التدريبات والتمارين العسكرية، والمبيت في ثكنات الكلية، وعدم النزول إلى الحياة المدنية في إجازات إلا لأسبوع في الشهر.
وترتدي الملحقات الدبلوماسيات الجُدد الزي العسكري الموحد، أو زي "الكشافة" في رأي العسكريين، ويضطررن للإقامة خلال فترة التدريب هذه في فندق تابع للقوات المسلحة، أمام مبنى الكلية الحربية، التي لا يوجد بها سكن مخصص للطالبات.
عام 1952 لم يكن في الخارجية إلا سفيران بخلفية عسكرية؛ ولكن بعد عشر سنوات أصبحت نسبة الضباط في المناصب الدبلوماسية الرفيعة 70%
ورغم أن عددًا من هؤلاء الشباب قضى الخدمة العسكرية بعد تخرجه من الجامعة، فلا أحد معفيّ من القرار الرئاسي بالتدريب وزيّه. ولأن المواد العسكرية وكل محاضرات الأمن القومي لا تكفي لملء ستة أشهر من التدريس، يُضطر المحاضرون المدنيون من أساتذة العلوم السياسية، والعلاقات الدولية، والسفراء السابقين، للذهاب إلى مبنى الحربية بدلَ المعهد الدبلوماسي، لتقديم تلك المحاضرات المطلوبة، لكن من حسن حظهم أنهم لن يُضطروا لارتداء زي موحد.
ضباط وسفراء
حين أطاح تنظيم "الضباط الأحرار" بالحكم المدني عام 1952 لم يكن في وزارة الخارجية المصرية وقتها إلا سفيران بخلفية عسكرية؛ أحدهما في بيروت والثاني في عمان. لكن وفقًا لكتاب "مجتمع جمال عبد الناصر" للكاتب الصحفي أحمد حمروش، الذي كان أيضًا من الضباط الأحرار، وصلت نسبة الضباط في وزارة الخارجية خلال عقد واحد لأكثر من 70% من كبار مناصب الوزارة وسفرائها عام 1962.
فخلال تلك السنة كان كل سفراء مصر في عواصم أوروبا من العسكريين؛ باستثناء ثلاثة سفراء مدنيين فقط، كما عيَّن ناصر في ذلك العام محمود رياض (خريج الكلية الحربية دفعة 1936) مندوبًا لمصر لدى الأمم المتحدة، ثم بعد عامين وزيرًا للخارجية.
ظل رياض في منصبه عشر سنوات حتى أزاحه السادات بجعله مستشارًا قبل أن يتم اختياره أمينًا عامًا للجامعة العربية. كما عيّن السادات الفريق أول كمال حسن علي وزيرًا للخارجية عام 1980، بعد أن كان وزير الدفاع. واستخدم السادات أسلوب الترقية لمنصب سفير للتخلص من بعض القيادات العسكرية، مثلما فعل مع الفريق سعد الدين الشاذلي بعد حرب 1973 عندما عينه سفيرًا في لندن ثم لشبونة.
وحتى مبارك، الذي ظن عندما استدعاه السادات عقب حرب أكتوبر لتكريمه بمنصب جديد؛ أنه سيصبح سفير مصر في لندن، انتهج منهج سلفه وأبعد في عام 1982 الفريق حسن أبو سعدة بجعله سفيرًا لمصر في لندن.
إسماعيل فهمي وتقليص دور العسكريين
عام 1972 عيّن السادات مراد غالب، صديق الضباط الأحرار الذين أدخلوه السلك الدبلوماسي بدل التدريس بكلية الطب حين وصلوا للحكم، في منصب وزير الخارجية بدلًا من محمود رياض. كان الاختيار مؤقتًا لرجل اشتراكي النزعة، خدم سفيرًا في الاتحاد السوفيتي.
لكن السادات لم يكن يهتم بتوصيات وزير خارجيته بتوثيق العلاقات مع السوفيت، ولم يُلبِّ طلبه بمعاقبة إسماعيل فهمي وكيل الوزارة لتصريحاته في ندوة بالأهرام بضرورة الخروج من الدائرة السوفيتية، بل واتضح لاحقًا أنه كان معجبًا بتوجهات فهمي.
وبعد تسعة أشهر استبدل السادات محمد حسن الزيات، زوج ابنة طه حسين وأستاذ الآداب الذي دخل السلك الدبلوماسي بعد 1952، بمراد غالب. لكن لم يبق الرجل في منصب الوزير سوى سنة وشهر واحد، انتهت بنهاية حرب 1973، ليأتي السادات قُبيل الحرب، وبعد طرد الخبراء الروس، بسفير مصر في ألمانيا الغربية إسماعيل فهمي لتولي وزارة السياحة مؤقتًا، ومع نهاية الحرب، عيّنه وزيرًا للخارجية.
كان السادات معجبًا بصراحة فهمي في إبداء رأيه، لكنه لم يتوقع أن تصل صراحة وزير خارجيته واعتداده برأيه لأن يكون أول وزير خارجية مصري يستقيل علانية من منصبه احتجاجًا على قرار للرئيس، وذلك بعد زيارة القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، ليتلوه في اليوم التالي وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض.
ولم يمر عام حتى استقال بالمثل ثالث وزير خارجية للسادات ورفيق نضاله محمد إبراهيم كامل، احتجاجًا على التنازلات التي قدّمها الرئيس إلى مناحم بيجن في تفاهمات كامب ديفيد، سبتمبر/أيلول 1978، دون العودة لوزير خارجيته أو التشاور معه.
تزامن تحول السادات ضد أنصار عبد الناصر في الحكم وأتباعهم في الوزارات المختلفة بما فيها وزارة الخارجية، مع ترسيخ إسماعيل فهمي مهنية واستقلالية السلك الدبلوماسي الذي اختير أعضاؤه من خريجي الكليات المدنية.
وباستثناء حالات فريدة، لم تشهد الخارجية المصرية منذ ذلك الحين تعيينات سفراء من العسكريين بنفس التوجه الذي تم في عهد الجمهورية الأولى، وهو التوجه الذي شهدت مصر مع نهايته الفعلية في أعقاب هزيمة 1967، مساعٍ من جمال عبد الناصر لإعادة بناء الجيش الذي سينتصر لاحقًا في 1973، مستعينًا بخريجي الكليات المدنية بمختلف تخصصاتهم، كمجندين برتبة "ضباط احتياطيين"!.