لم تسنح الفرصة حتى الآن لدراسة برنامج "الكاميرا الخفية - زكية زكريا" أنثربولوجيًا، خصوصًا ما يتعلق بالمواقف الإنسانية البسيطة المبتكرة التي حتى وإن كانت مفبركة، فلا يهم. بل المهم هو التساؤلات الناتجة عن التجربة الإنسانية في كل مقلب، والتي تضع الإنسان في موقف وجودي عليه أن يجد مخرجًا مناسبًا للتعامل معه. ما يهم فعلًا هو معادلة الأفعال وردود الأفعال.
أنت توتولاني..
"التوتولانية" هي مصطلح صكّه الفنان العظيم إبراهيم نصر في إحدى حلقات برنامجه الأبرز "الكاميرا الخفية" في نسخته التي كانت بطلتها شخصية "زكية زكريا".
في الحلقة التي يدور مقلبها حول برنامج تليفزيوني للتحليل النفسي تقدمه مذيعة التسعينيات البارزة نادية حليم، ما يمنح المصداقية اللازمة لحبك المقلب، يتم استضافة شخص/ضحية ليخضع لتجربة علمية لتحليل شخصيته تقوم بها العالمة النفسية زكية زكريا، وذلك عبر تحليل إجاباته عن مجموعة من الأسئلة.
يتسم التحليل بالسلبية والإهانة والمغالطة والمبالغة، يُوضع الضحية/الضيف في موقف وجودي صعب يحتم عليه اختيار ردة فعل. في تلك الحلقة شديدة العبثية يصف نصر أحد الضيوف بوصف شديد الغرابة، بمجرد أن يقع على مسامعك تدخل في نوبة ضحك استغرابي غير مبرر، صاحت زكية في الضيف "أنت توتولاني!". فاستهجن الضيف الوصف بشدة متسائلًا عن معناه، فردت زكية "التوتولاني هو الغايب عن الوعي والفاقد للتمييز".
وهنا علينا أن نقف احترامًا لإبراهيم نصر الذي استحدث مصطلحًا عبقريًا، عبر تركيب لغوي غرائبي يعبر عن تصرفات يقف الجميع عاجزًا أمام وصفها بهذا القدر الرائع من التلخيص. وأظن أن نصر لم يحلم أبدًا أنه بعد أكثر من خمس وعشرين عامًا سيصبح الشخص الأكثر تمسكًا بعقلانيته في مصر، مقارنة بمن هم على شفا الوقوع في حفرة التوتولانية.
والتوتولانية هي تلك الحفرة التي تحلم الطبقة الحاكمة في السنوات العشر الأخيرة بأن تضع الشعب المصري بأسره فيها، ومن يرفض تُنهي حياته بصيغة ما، حتى أصبحوا هم أنفسهم في بعض الأحيان ضحية الوقوع فيها، بل وفي كثيرٍ من الأحيان يدفعون برجالهم في تلك الحفرة، وبات القطاع الأعرض من المصريين يسبحون في شلال من التوتولانية بمنتهى السعادة والفخر ـ
لم نعُد خفيفي الدم
في مقالهِ على موقع المنصة بعنوان حين فقدنا ضحكًا كالبكاء، يحاول الكاتب محمد نعيم الاشتباك مع أسباب فقدان المصريين لخفة ظلهم. وفيه يفترض أن الضحك وخفة الدم والسخرية لا يتسق وجودهم مع الخضوع للقهر والطغيان، وأُضيف أنه لا يتسق وجودهم مع مكونات فاشية في مجتمع يصارع من أجل بقائه.
خفة الدم بالضرورة لاحقة للتحرر من طغيان السُخف
السخرية والسف يحتاجان في وجودهما لقدر كبير من الشجاعة والمواجهة والقدرة على التمييز، الذي يضمن اختيار الطريقة الأنسب في السخرية، ويحتاجا ألا تكون نسبة معتبرة من المواطنين قابعة بفعل السلطة في قاع الغياب عن الوعي و فقدان التمييز.
في أصل الأشياء، السخرية المنطلقة من واقع الحياة ووطأتها يتميز أصحابها بقدرتهم على المواجهة إن لزم الأمر، فالسخرية هي فعل مقاومة وليست مجرد "طريقة للتغلب على مصاعب الحياة"، وهو من وجهة نظري المفهوم الذي يحاول النظام ولجانه الإلكترونية تعميق حضوره بمنطق التنفيسه.
مع كل تلك المعطيات لا يمكن أن يكون الدم خفيفًا، لأن جودة الحياة لا تدفع أبدًا لأن يكون دم الإنسان خفيفًا ولا حتى روحه. وهو بالضرورة لن يمتلك سرعة البديهة، لأن بيئة يحيا فيها الإنسان في ظل انعدام المعلومات، واحتكار المعرفة، واحتقار العلم، وتبجيل التضليل، والاحتفاء بالسخافة، وتعظيم الوهم، تتحول بداهة الإنسان لكيان متفسخ ليس لوجوده المادي أي قيمة، لذا فخفة الدم بالضرورة لاحقة للتحرر من طغيان السُخف.
الإهانة ليست هيخيوخيو
"الهيخيوخيو" هو مصطلح فيسبوكي يطلق على الهزار السخيف والمنحط، وفي أحيان أخرى يستخدم كتعبير عن السخرية بشكل عام، و"الهيخيوخيو" لحدوثه يحتاج لهامش ما من البراح التعبيري، وظني أنه في ظل انعدام أي هامش للبراح التعبيري تكون الجدية ضرورية، حتى في السخرية.
وتكون الجدية ضرورية خصوصًا عند احتياجنا لمواجهة سؤال: ماذا يحدث عندما تقرر السلطة تفكيك المجتمع وإعادة بنائه بمرجعية المعسكر، حيث لا مواطنين، بل جنودًا وضباطًا، و آخرين يتأرجحون بين كونهم كسالى أو خونة أو أعداء محتملين؟.
في هذا المعسكر ثمة قواعد، فالارتياب ليس عيبًا لأن الحذر واجب، وتعدد الآراء بلبلة، والكذب دهاء، والسيئة تعُم والحسنة تخص، وليس كل شيء يُعرف. وعليه، فالإهانة مجرد تكدير، والتكدير لفظ شديد العسكرية، وهو ممارسة شديدة الانحطاط واللا إنسانية. فالتكدير في التعبير العسكري هو العقاب الممتد نظير خرق أحد القواعد إذا ما ارتكبها أحد أفراد المؤسسة، ولعل ستانلي كوبريك في فيلمه Full Metal Jacket حاكى التفاصيل المتعلقة بالكيفية الكابوسية التي يتحول فيها الجندي من مجرد فرد إلى آلة قتل، وما في تلك العملية من نسق وانضباط.
ينطلق الفيلم في أحداثه من فرضية التكدير، حيث الإهانة بلا توقف. ولكن ماذا لو قدر لك أن تعمل على تفكيك مجتمع مكون من 100 مليون لتحوله لمعسكر، يتحرك فيه المواطنون ويمارسون حياتهم لتجنب الإهانة، ويتخذ فيه آخرون من الإهانة قيمة يستطيعون من خلالها مراكمة الأرباح.
كل ضحك كان محض مخدر لتسكين ألم المذلة لم يدم
لعل السخرية والسف سريعي التحضير والإنتاج في مصر الآن أصبحت حالة تستدعي النقد، فتسارع الإنتاج يطرح تصورًا أنها منتجات معدة مسبقًا. على سبيل المثال، سرعة انتشار السخرية التي صاحبت قرارات تخفيف الأحمال الصادرة عن وزارة الكهرباء بمجرد صدور القرارات، يبدو الأمر وكأن شخصًا ما كان ينتظر لحظة صدور القرار.
هنا لا أحاول تأسيس نظرية مؤامرة تخص تلك المنتجات، لكنني أحاول تأمل سرعة إنتاج السخرية، التي أصبحت جزءًا من التأقلم مع أي من قرارات الحكومة غير المرضي عنها، وهي كلها.
لا أرى بالضرورة أن صناع الضحك الإلكتروني متورطين في تنفيذ مهمة ما في إطار عملية التأقلم المرجوة، عبر إنتاج سريع للسخرية من القرارات الحكومية. بل إن ذلك التسارع في إنتاج السخرية، دون نقد أو تحليل أو تمييز، من الممكن أن يجعل منتجي الضحك والميمز متورطين، بل متواطئين، دون أن يشعروا في عملية عميقة من التغييب عن الوعي وفقدان للتمييز ترجوها أي سلطة قمعية بشدة.
اعتاد المصريون عبر عصور طويلة اللجوء للضحك للمقاومة، لكن في المقابل كل ضحك كان محض مخدر لتسكين ألم المذلة لم يدم. في تلك الميمز سريعة الانتشار طريقة للتهدئة، للتشتيت، وفي تلك اللحظة بالتحديد يكون الانزلاق وراءها دون نقد هو مساهمة في التغييب.
فحفلة تامر حسني الأخيرة شديدة البهرجة، وتجارب الإضاءة في العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع المونوريل، وتصريحات وزير الكهرباء عن تكييف منزله، في الوقت الذي يعاني فيه ملايين المصريين من تهديدات وجودية بسبب انقطاع الكهرباء المتكرر؛ هي كلها تصرفات تتسم بالإهانة والاستفزاز والتكدير، الذي لا يتسق التعامل معه بأي شكل من أشكال الهيخيوخيو أو التوتولانية، وذلك حتى لا تتحول توتولانيتنا لحالة ميئوس منها، فلا تزال لدينا الفرصة لعودتنا للوعي واسترجاعنا للتمييز.