لقطة مأخوذة من فيلم ثرثرة فوق النيل إنتاج 1971- يوتيوب
لم تزل هذيانات أنيس زكي صالحة لإثارة الدهشة نتيجة عبقرية كاتبها والتكرار الرتيب للتاريخ

ثرثرة فوق ثرثرة

منشور الثلاثاء 9 يناير 2024

عام 1966، عندما كتب نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل، كان النهر آمنًا كمصدر حياة، لكنَّ المخاطر كانت قائمة في الشمال الشرقي كما هي اليوم، والبلاد الملتفة حول رجل واحد محبوب لا ترى الكارثة التي تلوح في الأفق، تلك التي رآها محفوظ ماثلة بسبب إهدار كلِّ الطاقات وتسليم المصير للزعيم المحبوب.

لم يقتنع محفوظ يومًا بحكم الفرد، وهذا ما نجَّاه من ارتكاب أيِّ خطأ فكري يوجب الاعتذار. في هذه الرواية التي أغضب مضمونها لجنة الحكم آنذاك، تنبأ الروائي الفيلسوف بالهزيمة، بالرغم من أنَّ الرواية لم تمس السلطة، بل تناولت سهرات ثرثرة لعدد من المثقفين، ينفقون وقتهم في عوامة بالنيل للشرب وتدخين الحشيش، وذات ليلة يفكرون بزيارة قرية ميت رهينة ويلهون على تمثال رمسيس، ثم يقتلون فلاحة في طريق عودتهم.

ما لا تقوله الرواية بوضوح، لكنه بين السطور، أنَّ هذا السلوك الانسحابي كان رد الفعل الممكن على استهانة النظام بقدراتهم الفكرية وإهدارها. ثرثراتهم وهذياناتهم تشيران من بعيد إلى هذا الإهدار الذي يجلب أنواعًا من المقاومة السلبية، وتحورات في الشخصية من أجل احتمال الحياة، وأحدها الانسحاب إلى التفاهة.

ولم تزل هذيانات بطل الرواية أنيس زكي صالحة لإثارة الدهشة بسبب عبقرية كاتبها، وبسبب التكرار الرتيب للتاريخ، الذي لا تختلف إحدى دوراته عن الأخرى سوى في الشكل. المضمون واحد والشكل يتغير بالتبادل بين المهزلة والمأساة!

آليات الاضمحلال

غلاف رواية ثرثرة فوق النيل طبعة ديوان

بينما يضاعف الحشيش الإحساس باهتزاز العوامة فوق الماء، رأى أنيس الكارثة خلال واحدة من هذياناته العظيمة "تجلت لعينيه المأساة على حقيقتها في ميدان المعركة، إذ يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتصر، إلى يمينه قواده المظفرون، وإلى يساره يجلس فرعون جلسة المنكسر. والأسرى من جنود مصر يمرون أمام الغازي. وإذا بفرعون يجهش في البكاء فيلتفت إليه قمبيز نحوه سائلًا عما يبكيه فيشير إلى رجل يسير برأس منكس بين الأسرى ويقول: هذا الرجل!.. لطالما شهدته وهو في أوج أبهته فعزَّ عليّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!".

في هذا المقطع، نرى كيف تجاهل الفرعون سقوط البلاد في يد الأجنبي وهزيمة جيشه وانتهاء حكمه، وأبكته رؤية واحد من خاصته يمشي منكس الرأس. لم يدرك حتى أنه شخصيًّا أسير، وفي جلسته يسار قمبيز يتمتع بوضع "أسير مميز" فحسب!

ما صنعه الفرعون يعرفه علم النفس بـ"الإبدال" أو "التحويل"، وهو من آليات الدفاع النفسية بالهروب من كارثة ساحقة وإبدال واحدة أقل بها.

لا تعكس هذه الآلية بالضرورة انحرافًا نفسيًّا، ولا تخص القادة ومهووسي الحكم وحدهم. لكنها واحدة من حيل كل البشر للتوازن في مواجهة ظروف أكبر من طاقاتهم. كما أنها ليست الوحيدة، فهناك حيل أخرى مثل "التقمص"، أي التوحد مع شخص أقوى وتوهم امتلاك قدراته، وهناك حيلة "الإضفاء  والإسقاط"، بالتنصل من عيب وإلصاقه بالآخرين، وهناك الارتداد أو "النكوص" أي العودة إلى مرحلة ما قبل النضج والمسؤولية، وهناك الأخطر؛ الإنكار ورد الفعل المعاكس، بمواجهة الإخفاقات بالترحاب وكأنها انتصارات، والحفاوة بالعدو، وكأنه أخلص الأصدقاء!

يمكننا أن نأخذ المشهد اللامع الذي صنعه محفوظ في روايته الملهمة ثرثرة فوق النيل، ونبني عليه رواية كاملة تكشف كل لحظات الإبدال والإنكار التي عاشها الفرعون وأوصلت الأوضاع إلى تلك اللحظة. كم هزيمة صغيرة تحمَّلها الفرعون وكان من الممكن أن يزيل آثارها، لكنه اعتبرها نصرًا أو أزاح نظره عن صورتها الكلية وركزه على تفصيلٍ تافهٍ، وكم من نصيحة مخلصة أهدرها، قبل أن يجلس إلى يسار قمبيز!

الفرعون الذي لم يُشرِّفه محفوظ بذكر اسمه كان بسماتيك الثالث. أزاحه الغزو الفارسي دون عناء عام 525 قبل الميلاد، وكان الاضمحلال سائدًا منذ عهد أبيه أمازيس، الذي انقلب على سلفه وقريبه الفرعون أبريس/هعبرع بالمصرية.

أين يذهب الاضمحلال؟

تولى أبريس الحكم عام 588 قبل الميلاد بآمال كبيرة في إعادة أحلام جده نخاو في تحجيم نفوذ بابل وملكها نبوخذ نصر. لكن الحلفاء في صور وفلسطين كانوا في ضعف شديد، كما أظهرت الجيوش المصرية قلة كفاءة، ثم دب فيها الانشقاق بتمردات السوريين واليونانيين، وما لبث أن جاء الخطر من الغرب أيضًا، لأن بعض اليونانيين أسسوا مستعمرة قوية في جزيرة قورنيئة أخذت تنمو على حساب ليبيا.

في عصور الاضمحلال تغيب الحقيقة الأزلية باستحالة الجمع بين جيش قوي ومجتمع ضعيف

أرسل أبريس جيشًا للحد من نفوذ القوة الجديدة، وإذا بالجيش يلقى هزيمة جعلت قواده يتشككون في نيّات الفرعون. ظنوا أنه أرسلهم ليتخلص منهم، لذا أعلنوا التمرد، فأرسل أبريس قريبه أحمس/ أمازيس في يونانية هيرودوت. ونجح في وأد التمرد، وتقاسم مع الفرعون عرشه لفترة تميزت بنوبات توافق وتنازع بينهما، إلى أن انتهى الأمر بهزيمة أبريس وقتله، فاحتفل أمازيس بجنازته على النحو اللائق بالملوك ودفنه، وقدم عليه القرابين بسخاء!

المفارقة أنَّ أمازيس، الذي انتصر في صراعه مع أبريس ونال الحكم بتهييج الشعور الوطني لدى المصريين ضد اليونانيين، اكتفى بهذا التلاعب الذي مكنه من الحكم، ولم يضع لنفسه خطة ضد النفوذ الأجنبي بمصر.

وبسبب اغتصابه للعرش أدرك نبوخذ نصر، ملك بابل القوي، أنَّ هذا الانقلاب ما كان ليتم إلا بفضل انشقاق وفوضى داخليين، وهكذا في عام 568 ق.م ظهر جيشه على حدود الدلتا الشرقية، قبل وفاة أمازيس بقليل، ثم ما لبث نبوخذ نصر أن توفي وضعفت بابل، وبدلًا من خطرها فتحت الطريق لخطر الفرس على مصر.

حكم أمازيس 44 عامًا، أثبت فيها كفاءته في التوازن على ظهر النمر. بفضل أصله اليوناني قلل اهتمامه بالتقاليد الدينية الفرعونية، وبينها الطبيعة الإلهية للحاكم؛ فكان يرفع حجاب الكلفة بينه وبين خاصته، وكان هذا سببًا في رفع مكانته في عالم السياسة تمامًا، وكانت مهارته السياسية مضرب الأمثال.

لكنَّ مهارته في التوازن فوق ظهر السلطة وقوة أساطيله التي استفاد منها الفُرس والبطالمة فيما بعد، لم تكن تعني أنَّ البلاد في أمان. صرف إيراد المعابد على الجيش والأسطول، وتدريجيًا فُرضت الضرائب على أملاك المعابد، وفقد الكهنة مكانتهم، كما خضعت طوائف البلاد الراقية للتدهور نفسه.

وكان هذا سببًا لغياب "الحياة القومية والشعور الوطني اليقظ في نفوس الأهالي" بوصف جيمس هنري بريستد في كتابه تاريخ مصر ..من أقدم العصور إلى العصر الفارسي. وربما يجوز لنا أن نتصور نخب ذلك العصر يدخنون الحشيش في ذهبيات فوق النيل لم يأت التاريخ على ذكرها!

كان سقوط مصر وختام تاريخها الفريد ظاهر القرب قبل وصول قمبيز بجيشه الجرار والإطاحة بعرش الابن بسماتيك الثالث بالنسبة لبريستد، وبسقوطه "دخلت مصر في عالم جديد كانت لها في إنشائه اليد الطولى، ولكنها أصبحت وقتئذ عاجزة عن القيام بعمل جدي. وقد أتمت مصر مأموريتها الكبيرة بنجاح، لكنها عجزت عن الاحتجاب عن العالم كنينوى وبابل فبقيت عائشة في حياتها الاصطناعية تحت حكم الفرس والبطالسة، ثم أخذت تضمحل حتى صارت فيما بعد مزرعة للمملكة الرومانية".

من أسرة التأسيس الأولى 2920 قبل الميلاد وحتى كتابة النقطة الأخيرة في حياتها، مرت الدولة الفرعونية بأوقات قوة وأوقات اضمحلال. قدمت في قوتها نموذجين من الأداء في الإقليم: مصر المتمددة بحروب وتحالفات واثقة، ومصر المكتفية بحدودها الطبيعية اكتفاءً قويًا واعيًا بالتوازنات، وهو ليس انكفاءً. وفي الحالتين كان الجيش القوي ابنًا لمجتمع قوي.

أما عصور الاضمحلال، خصوصًا الأسرة الثلاثين الأخيرة، فتميزت بحروب ومغامرات خارجية دون معرفةٍ دقيقةٍ بموازين القوى الأخرى في الإقليم، وتحالفات مع حلفاء غير مضمونين من حيث القوة أو الإخلاص، وبغفلة عن حقيقة أزلية، تقضي بأنه من المستحيل الجمع بين جيش قوي ومجتمع ضعيف.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.