لا تكف السينما الغربية عن التذكير بحربين وحشيتين شهدهما النصف الأول من القرن العشرين. الحربان معروفتان بـ "العالمية الأولى والثانية"، والتسمية بذاتها هي أول تزييف تمارسه الوحشية الغربية على وعي العالم؛ فهما حربان أوروبيتان اتسعت دوائر المعارك فيهما، حتى شملت المستعمرات الغربية في الشرق والجنوب. أدارت القوى الاستعمارية الأوروبية تلك المستعمرات بوحشية سابقة، ثم أضافت إليها وحشية توريطها في النزاع الأوروبي-الأوروبي.
حجم الإنتاج الدرامي الغربي حول الذكريات الدامية للحربين مُدهش. معظمه يتركز على فظائع احتلال ألمانيا لفرنسا. فما الفائدة من نبش جراح الجارتين اللتين تعدان معًا قاطرة الاتحاد الأوروبي؟
في إجابة متسرعة يمكننا اعتبار تلك الدراما عملًا ضد وحدة أوروبا، خاصة أن معظم الإنتاج أمريكي ومن المنطقي ألا تتطابق المصالح الأوروبية والأمريكية. لكن التفكير في اللوبيات المسيطرة على الإنتاج الدرامي الغربي واستراتيجياتها يجعلنا نتمهل لنرى المنافع التي تحققها تلك الاستعادة للحظة دموية لا تريد الدراما أن تتخطاها.
إذا أخذنا بالتسمية الخاطئة "حرب عالمية"، فإن ذلك الماضي المستعاد فنَّا يوهمنا بأن العالم قد غادر وحشيته وصار متحضرًا. وإن أردنا الانتباه إلى الهوية الغربية للحرب، فهي توهمنا بأن الغرب غادر وحشيته ولا يفتأ يذكر ذنوبه التي يعترف بها، لكنه في الوقت نفسه يبررها بأنه كان لابد أن يرتكبها بسبب ديكتاتور مجنون هو هتلر. وهذه الدراما بمثابة التوبة وصلاة الشكر على نعمة الديمقراطية وإنسانيتها التي ينبغي التمسك بها.
تُقيم الدراما في الحربين كآخر الخطايا بينما لم يتوقف الغرب عن ارتكاب الجرائم. من لحظة الاعتراف بدولة للمستوطنين اليهود في فلسطين عقب الحرب الثانية إلى العدوان الثلاثي على مصر وحروب الإبادة في أمريكا الجنوبية، وانتهاء بتدمير أفغانستان والعراق، ثم التطهير العرقي في البوسنة وإشعال النار في الربيع العربي حربًا ودعمًا للديكتاتوريات.
استطاعت الدراما التغطية على كل الجرائم الطازجة وتثبيت صورة الغرب الذي صار إنسانيًّا وخيِّرًا بالمطلق، بينما لا تزال بقية البشرية تتعثر في وحشيتها. هكذا يستطيع الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يعتبر "عملية القدس" اعتداءً على العالم المتحضر وقيمه، ويبدو حديثه منطقيًّا لا يثير السخرية، في حين أن منفذ العملية كان يرد على الوحشية التي قتل بها جيش الاحتلال الإسرائيلي شبابًا في مخيم جنين.
غض الرئيس الأمريكي طرفه عن القصة الأصلية للاحتلال الاستيطاني وجرائمه على أرض الغير، وأغمض عينيه عن حق الشعوب المحتلة في المقاومة.
بينما تدور في أوكرانيا معارك لها الطبيعة الوحشية ذاتها التي كانت لحربي القرن العشرين، وبينما يتطور الصراع إلى حد التهديد بأن يُصبح عالميًّا تنشط الدراما الغربية في التذكير بفظاعات قرن مضى.
بائعة الهوى والحرب
أحدث نتاجات استعادة الماضي مسلسل من ثماني حلقات على نتفلكس بعنوان نساء في الحرب/ Women at war، يُركِّز على أثر الحرب الأولى في حياة أربع نساء فرنسيات وكيف تصرفن في مواجهة الغزو الألماني لبلدهن.
إحدى النساء بائعة هوى تزوجت من مهندس مالك لمصنع تطوع في الحرب وترك لزوجته إدارة المصنع. وعندما ذهب كل العمال للحرب أعادت تشغيل المصنع بزوجاتهم، وعندما تعثرت في دفع أجورهن خلعت قلادتها ومنحتها لهن، وأمام دهشتهن قالت: لا يمكنني أن أطلب من أحد تضحية لم أقدمها.
امتلكت تلك المرأة الوطنية العظيمة حسًا إنسانيًّا ومنطقًا متماسكًا جعل العاملات يتفانين في الدفاع عن المصنع وعن صاحبته التي تعرضت لمكائد شقيق الزوج الغائب.
والمسلسل في مجمله يشبه أفلام ومسلسلات وكتب غربية عدّة، تقف أمام حائط مبكى الحربين الأوروبيتين الكبيرتين، بإقناع وإمتاع كبيرين، استنادًا إلى المهارة الإبداعية التي تخلط الكثير من الأساطير بالقليل من الحقائق، حسب القاعدة الإبداعية "إعط الجمهور حقيقة واحدة سليمة ليمرر لك عشر كذبات".
ولعل ذلك النجاح للدراما والإعلام الغربي في استعارة التاريخ وتوظيفه لخدمة الحاضر يجعلنا نفكر في سر الإخفاق الدرامي والإعلامي المصري في تحقيق أهدافه في السنوات العشر الأخيرة. النظام نفسه يعترف بهذا الإخفاق، إذ يرى الدراما والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها المليارات تتحول في وعي الجمهور إلى كوميديا.
لا يمكن للأب الشُضلي الذي اعتاد أن يسجن أبناءه في الحمَّام ويكمم أفواهم أن يواصل على ذلك المنوال
صيحة الشلولو
لفهم هذه المفارقة لابد من التساؤل حول مستوى مهارة الاستعارة، وذرة ملح الحقيقة التي تنقص الطبخة. ولنتأمل فتنة الشلولو، المثال الأحدث في انقلاب المحتوى الدرامي إلى كوميدي.
الواقعة شهيرة بالطبع، تتعلق بدعوة النائب والإعلامي مصطفى بكري للمصريين بالخارج لكي يتبرعوا لإنقاذ الوطن. أطلقت الدعوة سخريات الجمهور، وأسئلته حول "الشلولو" كطبخة تضمنها النداء الذائع الصيت ذو المظهر المطبخي والجوهر السياسي، الذي تهدج فيه صوت الداعي، "احنا اللي اتربينا واحنا صغيرين على البتاو والمش والجبنة، كنا بناكل الشلولو"، ثم شرح الشلولو لمن لا يعرفه "ملوخية ناشفة بالملح والليمون".
بخصوص الشق المطبخي في هذا النداء، لا أتعاطف كثيرًا مع مأساوية الحديث عن الطعام؛ فهناك دائمًا إمكانية لتخفيف المأساة المطبخية، قبل تحويلها إلى سردية حاكمة. كل الشعوب خففت سرديات فقرها بالحيلة، وما العدد الكبير من الأكلات التي اخترعتها شعوب المتوسط من الخضروات إلا محاولات لتخفيف الفقر. ومع الوقت تحول طعام الضرورة إلى مقبلات في المطاعم الفاخرة.
في وجه بحري نخفف ألم الشلولو بحبة طماطم بدلًا من الليمون. نُقطِّعها مكعبات صغيرة بحجم زهرة نرد، نطش بها تقلية الثوم ونُقلبها معها لمدة دقيقة، ثم نضيف المرق أو الماء وبعد أن يغلي نضيف حفنة الملوخية. وبهذه الطريقة لا يعود الشلولو مأساويًّا. وبالمناسبة، أنصح بهذا الطبق المِزز بجوار الحمام المحشي.
لم يأت الجانب المطبخي في نداء النائب عبثًا بل لدعم الجانب السياسي الذي تضمن استعارة كبرى من زمن الحرب "أكلنا الشلولو حتى عبرنا". لكننا لسنا في حالة حرب، بل تحاشيناها بأكثر مما يجب. لهذا لم تبد الاستعارة مقنعة، فانزاحت دعوة التبرع الدرامية إلى الجانب الكوميدي في تعليقات الجمهور الساخر.
ليست هذه الدعوة مهمة بذاتها، بل بتطابقها مع العقيدة السياسية للمرحلة. وهي تكشف بجلاء مآلات النظام الذي تأسس في يوليو 1952 على معاملة الشعب بوصفه عيلًا وعالة على نظام أبوي يُطعم ويعالج ويؤدب. لكن خلال سبعين عامًا أخذ الأب ينسحب من مهام الرعاية حتى صار هو نفسه عالة، محتفظًا بالهراوة في يده.
هذه المفارقة غرائبية، ولا تجوز حتى على مستوى الأسرة التي تجمعها رابطة الدم، فبمجرد أن يهرم الأب ويتقدم الابن لتحمل المسؤولية المادية تنتقل السلطة إليه تلقائيًّا. لا يمكن للأب الشُضلي الذي اعتاد أن يسجن أبناءه في الحمَّام ويكمم أفواهم أن يواصل على ذلك المنوال، ولا يمكن أن يطالب الأبناء بإعطائه ما بأيديهم لكي يتولى إنفاقه دون مشورتهم، والأدهى أن يعيِّرهم بعددهم ويستميت في زرع إحساسهم بالخجل من وجودهم، وهم الذين ينفقون.
لدينا مصريون يعملون في الخارج بسبب الزيادة السكانية التي يضيق بها النظام، وتحويلاتهم صارت أهم مصدر للعملة الأجنبية. وبلغت خلال العام المالي (2021-2022) 31.9 مليار دولار.
وعندما رأى النائب أن يلقي عليهم عبء تعويم السفينة الشاحطة، فهو يجري على عادة نظام يرى القرش في جيب فئة من المصريين فيحتال للحصول عليه، بصرف النظر عن عدالة توزيع الأعباء.
العارف بالبتاو
لم يبد في نداء النائب أي استعداد للعودة إلى الشلولو، ولم يقل إنه سيفتتح بنفسه باب التبرعات، فصارت مطالبة الآخرين بالتضحية مثيرة للفكاهة، وبما أنه لا يوجد عدو على الأبواب فلم يأخذ أحد استعارته للماضي الحربي بجدية.
فوق كل هذا يقفز النداء على حقيقتين كبيرتين. الأولى أن نصف المصريين في الخارج وربما أكثر، لا توجد إحصاءات دقيقة، هم من العمال الذين ركبوا الأخطار هجاجًا من البطالة ويتقاضون الملاليم في مناطق خطرة مثل ليبيا.
القفزة الأخرى الساخرة والخيالية هي اعتبار المغترب الميسور مقطوعًا من شجرة، بالتالي افتراض أن المئتي دولار المقترحة حدًا للتبرع هي أولى مساهماته، بينما لا يوجد مسافر لا يساعد عمَّات وخالات وأخوات وأخوة، بل وأصدقاء. يقدم معونته نقدًا أو حسنة مخفية في كساء أو مساهمات عينية في جهاز عروس.
العارف بالبتاو والشلولو لا يمكن أن يجهل هذه الحقائق. ولابد أنه، وهو الماهر، كان يعرف مآل دعوته، لكنه أثبت إخلاصه، وتناغم بدعوته مع أمثولة أكل الصحابة لورق الشجر.
لكن الاستعارات الخاطئة تحرق وقتًا ولا تحقق نتائج. طلب التضحية، وصيحة "هاتوا فلوس" شخطًا أو توسلًا، ليست سوى محاولة لفرض فقه الضرورة، الذي لا يجوز العمل به شرعًا إلا في مواجهة الأوبئة والزلازل والفيضانات والحروب، وبما أننا لا نعاني هذه الكوارث فالمقبول هو فقه الأولويات.
ولو تضمن النداء ذرة من ملح الحقيقة لأصبحت استعاراتنا من التاريخ مقبولة. ولو عرفنا من الذي يجب أن يتبرع أولًا وأولويات الإنفاق، نستطيع تعويم السفينة. وهذا ليس مستحيلًا؛ فكل ما يتطلبه مناخ سياسي مفتوح وشفافية مالية تحت رقابة أجهزة الدولة. وبغير ذلك ستظل نداءات الإنقاذ مثيرة للضحك في ظل وضع غير مضحك على الإطلاق.