تتعرض الطبقات الوسطى في مصر لإفقار غير مسبوق في تاريخها المعاصر ينال من مقدساتها الاجتماعية؛ الستر والتعليم الجيد للأبناء، بل ووصل إلى سلتها الغذائية ومفردات المائدة. وهو إفقار غير مرشح للتوقف بل للتفاقم.
وأعتقد أنَّ أيَّ خيار سياسيٍّ لا ينطلق من أولوية مواجهة هذا الشرط المؤلم، والعمل على استئصال السياسات التي سببته، هو خيار يعبر عن غيبوبة مستهترة أو إجرام مدروس، لأنَّ من استكان إلى أبدية القبضة الأمنية، وإرعاب الناس، وإجبارهم على قبول كل أمر واقع، لا يدرك أنَّ لميزان الصبر سعة، وأنَّ اتِّباع سياسة التهديد الدائم بما هو أسوأ لن تثمر إلى الأبد، لأن الأسوأ أتى بالفعل.
في هذا المصاب، لا يهم من يجلس على رأس السلطة اليوم، ولا من سيعتليها غدًا، فقد حدث ما حدث ووقعت الأضرار بالفعل، وهي نتاج لسياساتٍ ورؤىً وانحيازاتٍ، وليست مجرد أعراض جانبية لقرارات خاطئة أو لفساد لم يجد رقابة مؤسسية أو شعبية تحاسبه، لقد اِتُّخذ قرارٌ واعٍ وباردٌ بإفقار الطبقة الوسطى المصرية وتجويع فقرائها، أو قرارٌ ببنغلتهم كما أشرت في مقال سابق.
ليس جهلًا بل خيارًا باردًا ومسلحًا
الذين اختاروا طريق الأَمْوَلة لاقتصاد نامٍ وضعيف ليسوا سفهاء أو جهلة، فهم من البداية يعلمون جيدًا مخاطر هذا الخيار، وأنَّ ذبذبات منخفضة أو متوسطة في أسواق المال العالمية يمكن لها أن تهدر قيمة مدخرات أغلبية المصريين. كانوا واعين تمام الوعي أنَّ اللهاث خلف تقييمات ائتمانية دولية سيفتح باب استدانة لن يتوقف، ولكنهم لم يبالوا بعواقب كل هذا أو بتكاليفه الاجتماعية، فالخطة من البداية هي أن يدفع الشعب هذه التكاليف.
اختارت البرجوازية وقتها دفع "الإتاوة" لا "الضريبة"، كانت تعي أنها لحظة إجرام لا بناء
لقد اتخذوا هذا المسار بوعي شديد في لحظة النشوة بزحف الأرتال بعد 2013، وقتَ لن يعلو صوت فوق صوت المعركة، لحظة تجريد الطبقة الوسطى من لياقتها السياسية والقيمية والأخلاقية، فينعقد لسانها ويعطب ذهنها. تحوَّل التفويض بسحق "الأعداء"، إلى تفويض بالتصرف في كل شيء، وأصبحت السلطةُ على القرار الاقتصادي وإدارة الموارد العامة سلطةً منفردةً، كما لم يحدث في أي لحظة من التاريخ. اختارت البرجوازية وقتها دفع "الإتاوة" لا "الضريبة"، كانت تعي أنها لحظة إجرام لا لحظة بناء وتأسيس حديث.
لم تكن هناك لحظة أنسب من ذلك؛ ففي هذه الملابسات يمكن سحق "العشوائيين" في إطار خطط سُمِّيت بالتطوير العمراني، ويمكن لأفندية وبكوات القاهرة الاستيقاظ من نومهم في الصباح على أصوات جرافات تعيد تشكيل أحيائهم وحياتهم، وسيسمعون مساءً من يُخبرهم بأنَّ هناك عاصمة جديدة لبلادهم يتم بناؤها، ثم يفاجأون أنها ليست مبالغة، وأنَّ هناك عاصمة جديدة بالفعل تُشيَّد ببصمة تفويضهم.
بدأ الأمر بأن سُحقت مكانة الطبقة الوسطى المدنية معنويًا وأخلاقيًا، بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث. كتب تفويض 26 يوليو/تموز 2013، والسلطة التي تولدت عنه، نهاية أهلية الطبقة الوسطى المصرية سياسيًا وقيميًا، مما فتح الباب لاحقًا لإمكانية سحقها ماديًا وطبقيًا. وكما أفردت في مقالات سابقة، فالطبقة الوسطى المصرية رأسمالها رمزي أكثر مما هو مادي، وفقدان ما هو رمزي محتوم في مسيرته بفقدان ما هو مادي، في مصير لا فكاك منه.
في عملية السحق تلك، تطايرت بعض شظايا الطبقة الوسطى لأعلى، وسُويِّت شظايا أخرى بالأرض، من استطاع الهرب إلى الخارج هرب، والبعض الآخر حاول التشبث بأهداب فئات الـEgyptians الطفيلية أملًا في الحصول على بعض من الاحترام والأمان، وذلك عبر الاستدانة الشخصية والتمويل الاستهلاكي.
لكنَّ الغالبية من قوام الطبقة الوسطى هوت حيث يقبع باقي إخوانها من المصريين، صحيح لا يزال القطاع الأكبر منهم في حالة صدمة وإنكار وعدم تصديق لما حصل، لكنَّ عامًا ونصف من محاولات الصمود والتأقلم، أكدَّ أن هناك واقعًا جديدًا خَطَّ مكانه على قسمات حياة المصريين.
لم يبقَ من نصف جمهورية 23 يوليو إلا اسمها والتهديد بالفوضى
يمكن لكتلة طافية من المصريين لا تتجاوز نسبتها 15%؛ أن تسطو على اسم وسمة وصورة البلد كلها كما كتب الصديق والأخ الراحل محمد أبو الغيط، حيث لا مصر سوى مِصرهم هم، يسطون على ملامحها ومشاعرها ومشاكلها وجدالاتها.
فما العيب إذن لو زادت كتلة الغاطسين من 85% إلى 93% مثلًا أو أكثر قليلًا؟ المسألة ليست مستحيلة!
المعادلة بدون مراوغات
التحالف الطبقي البيروقراطي الذي يُشكِّل السلطة الحالية في مصر، ويغلب عليه المكون العسكري، يدرك نقاط قوته جيدًا، فسياسات الإفقار النيوليبرالية، التي تجر الاقتصاد المصري من خصيتيه لن تكون ممكنة في ظل حكم مدني، أو في ظل وجود للسياسة من الأساس. الإخوان المسلمون وهم من أكثر أهل اليمين يمينًا، لم يكن لسلطتهم القدرة على إنفاذ هذه السياسات إلا بمستويات من القمع لم يمتلكوا أدواتها، وذلك في ظل المعادلة السياسية التي حكمت سيطرتهم على السلطة.
لذا يدرك المكون العسكري الغالب في مصر أن قسوة قبضته كانت شرطًا لازمًا لكل ما حدث وما يزال يحدث، وهو مطمئن أيضًا لدعم وتواطؤ كل المكونات الإقليمية والدولية على هذا الدور، مهما اِدَّعت تلك المكونات عكس ذلك، ومهما انهمرت دموع الرجل الليبرالي الأبيض.
فمؤسسات التمويل الدولية التي تُحدِّثنا منذ عام ونصف عن ضرورة "تحرير" الاقتصاد من سطوة المكون العسكرى عليه، هي نفس المؤسسات التي دعمت وأغدقت قبلها بأعوام قليلة على نفس السلطة ذات نفس البنية والمواصفات القياسية، من دون أي شكوى من "طبيعة" حضورها في الاقتصاد.
لذا فوفقًا لهذه المعادلة، اعتبر المكون العسكري أن "عرق قبضته" التي ستحمي "تحرير" الاقتصاد يجب أن يتناسب مع محورية الدور الذي يؤديه، فلو كان "تحرير" الاقتصاد ضروريًا، فلماذا تكون شراكة رأس المال الأجنبي مع ذلك المكون المدني المحلي، سواء كان محسوبًا على لجنة سياسات الحزب الوطني، أو مجلس شورى الإخوان المسلمين؟
القلب الصلب للدولة هو الأولى بحصة "الوطن" في قسمة مصر، وإن كان البيع آتيًا لا ريب، فلماذا يكون البائع وسيطًا سياسيًا يقف بين صاحب السلاح والمحكوم الذليل والمستثمر الأجنبي؟ هذه عملية لا تحتاج في حالة مصر إلى وساطة أو تفاوض، بل إلى قبضة لا تهاود. فليعلن السياديون أنفسهم إذن ممثلين حصريين للوطن ومصالحه وموارده، من موقع أنهم الأجدر بالتفاوض، وحصة الشريك.
وقع المصريون في الفخ بالفعل، وهم الآن أمام الأمر الواقع، حيث لم يبقَ من نصف جمهورية 23 يوليو إلا اسمها والتهديد بالفوضى، وعلى من يريد الاشتباك مع الشأن العام أن ينطلق من هذه النقطة؛ الحفاظ على مصر يبدأ من الحفاظ على المصريين، وقد صار أغلبهم في كرب معيشي غير مسبوق.
لن تعود السياسة في مصر موضوعًا للتسالي أو التراشق الثقافي، ولا إثبات الحضور في دفاتر المجال العام. لا وقت ولا مجال لذلك، ولا جمهور أيضًا، السياسة في مصر قد تكون مرشحة للجدية ربما للمرة الأولى؛ حيث إجابة أسئلة الثروة والسلطة وملكية الموارد وعدالة توزيعها وتمثيل المصالح من أسفل.