من الصعب معرفة الأرقام الفعلية لوفيات الحجاج كل عام في السعودية حتى تعلنها بلادهم، وبعضها تفعل على مضض، ليتضح نسبيًا مدى ارتفاع الأرقام أو انخفاضها عما سبقها من سنوات، وملابسات هذه الوفيات.
وحين اتضح هذا العام وفاة 670 حاجًا مصريًا من أصل أكثر من 50 ألفًا، بالإضافة إلى 50 حاجًا تونسيًا و100 أردني، أعلن وزير الصحة السعودي إجمالي عدد الوفيات هذا العام برقم: حاج واحد بعد الألف وثلاثمائة!
وقال الوزير فهد الجلاجل إن 83% ممن توفوا في الحج هم من الحجاج المخالفين غير المصرح لهم بتأشيرة حج. وأغلب هؤلاء مشى لمسافات طويلة بدون مواصلات تحت وطأة الشمس، وبدون مياه أو أماكن مكيفة الهواء.
من غير الواضح العدد الإجمالي للحجاج المصريين المخالفين، أي الذين دخلوا مكة بدون تأشيرة حج، رغم أن السعودية أغلقت أبواب مكة أمام غير المقيمين أو العاملين بها، بجانب حاملي تأشيرات الحج، قبل وقفة عرفات بستة أسابيع.
يُفترض أن يكون مجموع المصريين بتأشيرات حج لهذا العام نحو 43 ألف شخص، منهم 14 ألفًا و500 من حجاج القرعة التي تنظمها وزارة الداخلية، و6000 من حجاج الجمعيات الأهلية، تختارهم وزارة التضامن الاجتماعي عبر القرعة من بين 22 ألف طلب. أما تأشيرات الحج السياحي فبلغت 23 ألفًا، أي أكثر من مجموع تأشيرات الحج الحكومية، ومنها 6000 تأشيرة حج خمسة نجوم للأغنياء.
ويُفترض أن الحج الحكومي بالقرعة هو الأرخص لأنه يحصل على تأشيرات حج مجانية من السعودية، بواقع ألف تأشيرة لكل مليون نسمة، لكن تكلفته بلغت لهذا العام نحو ربع مليون جنيه مصري، أي نحو 5000 دولار أمريكي، بالتالي يمكن تقدير ارتفاع تكلفة الحج السياحي المرفه وغير الاقتصادي إلى نحو عشرة آلاف دولار، أي نصف مليون جنيه مصري!
لو كان مجموع الحجاج المصريين خمسين ألفًا لهذا العام، بينهم 43 ألفًا بتأشيرات حج، فإن عدد الحجاج المخالفين أي الحاصلين على تأشيرة سياحة فقط لم يتجاوز الآلاف السبعة، مات منهم نحو 700 أي 10% أو بعبارة أخرى: مات منهم العُشر بحلول العاشر من ذي الحجة.
نوافذ الفساد والإثراء
بينما يتكلف حج القرعة الحكومي ربع مليون جنيه، تحدث مراسلو صحيفة نيويورك تايمز لأقارب مصريين سافر أهلهم للحج هذا العام بتأشيرة سياحة، فوجدوا أن والديّ "مروة"، التي اكتفت باسمها الأول تجنبًا لتعقبها أمنيًا، دفعا نحو خمسين ألف جنيه لكل منهما للحج بشكل مخالف. ورغم الصعاب التي تعرضا لها فقد نجيا وتمكنا من الحج.
أما أحمد عبد التواب، فأخبر الصحيفة الأمريكية عن شقيقته صفاء التي كانت جدة وهي في الـ55، ولم تتمكن من الحصول على تأشيرة الحج، فدفعت نحو 150 ألف جنيه لشركة سياحة نصبت عليها، ولم تقدم الخدمات التي وعدت بها، بل خبأتها في مسكن غير ملائم بمكة لتجنب الحملات الأمنية ضد المخالفين، ولم تجد الأتوبيس المكيف أو غير المكيف للسفر إلى منى وعرفة، وبالتالي تُوفيت خلال سيرها في الصحراء!
لا توجد مفاجآت في درجات الحرارة فقد حذرت دراسات منذ سنوات من تأثير الاحتباس الحراري
بل وحتى قبل تدهور القيمة الشرائية للجنيه المصري هذا العام، كانت هناك شكاوى منذ رفعت السعودية أسعار خدمات الحج وأسعار الفنادق والمواصلات وغيرها عام 2015، حين انخفضت عائداتها من البترول. وبعد تحسنها، كانت هناك خطط أكبر لتوسعة الحرم المكي وإنشاء قطار المشاعر وغيره من خطط تهدف لاستيعاب 30 مليون حاج ومعتمر بحلول عام 2030، أخذًا في الاعتبار أن عدد حجاج هذا العام لم يتجاوز المليونين!
ورغم أن الكوتة التي حددتها السعودية لكل دولة من التأشيرات المجانية هي ألف تأشيرة حج لكل مليون نسمة، فإن المقدَّم منها رسميًا لمصر أقل من النصف، إذ حصلت على 43 ألف تأشيرة بدلًا من نحو 100 ألف.
بالتالي، هناك نوافذ تفتح المجال للفساد والإثراء وشراء الولاءات السياسية إن لم يكن الذمم، في تأشيرات الحج التي يحصل عليها نواب ومسؤولون ومقربون من السعودية، سواء عبر سفاراتها أو أمرائها!
وبعيدًا عن استضافات الحج السياسية في السعودية، فإن عدد منح الحج بالزيارة مجانًا وعلى نفقة الدولة لا تتعدى 1300 دعوة، خصص ألف منها هذا العام للفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
ونقلت وكالة رويترز في العام الماضي عن مدرس ليبي كان من بين 8000 ممن حجوا ليس فقط عن طريق الدولة في ليبيا بل وأيضًا على نفقتهم، رغم الظروف التي تمر بها البلاد، قوله "لو أردت الذهاب على حسابي الشخصي سأحتاج إلى 15 سنة لأقوم بجمع المبلغ اللازم للحج"، علمًا بأن راتب المدرس الليبي ما زال أعلى بأضعاف من راتب نظيره المصري.
تحذيرات من الاحتباس
حين يُسمح لآلاف من الحجاج المخالفين، كنوع من التسامح والمكرمة في اللحظات الأخيرة لبدء مشاعر الحج، بالمشاركة، دون أن تكون لديهم مخيمات مكيفة الهواء في منى أو تسهيلات أو طعام وماء أو مواصلات تنقلهم إلى جبل عرفات، فيضطرون للسير على أقدامهم لأكثر من 20 كيلومترًا تحت أشعة الشمس في درجة حرارة بلغت الخمسين، فهذا قرار بالقتل عامة، خاصة بالنسبة للمسنين والمرضى منهم!
لا توجد مفاجآت في درجات الحرارة المتوقعة. فمنذ أكثر من خمس سنوات، حذرت دراسات غربية وسعودية من تأثير الاحتباس الحراري وزيادة متوسط حرارة الكوكب. وخلصت إلى أنه بينما تزداد حرارة كوكب الأرض بنحو نصف درجة مئوية كل عشر سنوات، فإن الزيادة في السعودية والخليج تبلغ الضعف، أي أن درجة حرارة الصيف هناك تزيد نحو أربع درجات عما كانت عليه قبل أربعة عقود. وبجانب ذلك، فإن ارتفاع نسب الرطوبة بسبب الرياح الغربية على مكة ومناطق الحج والمشبعة بمياه البحر الأحمر، تزيد من مخاطر الاختناق مع تأثير الحرارة وضربات الشمس.
وبما أن ذروة موسم الصيف بحرارته تعود في نفس موعد الحج لبضعة مواسم كل ثلاثين عامًا، فقد ركزت التحذيرات على مواسم الحج من 2020 حتى 2024. ولكن ربما لحسن الحظ، أو لسوئه، كانت أعداد الحجاج محدودةً للغاية عامي 2020 و2021، حين كان في لهيب يوليو/تموز وأغسطس/آب، بسبب الجائحة.
وهناك تحذيرات من الآن لمواسم الحج من 2049 إلى 2054، وكذلك من 2079 وما بعده.
لا يجب الاكتفاء بسحب رخص شركات سياحية أو التحقيق مع أشخاص استغلوا حاجة المواطن للحج
لكن الأخطر هو توقعات علماء المناخ بأن مجرد العيش في أجزاء من السعودية ودول الخليج لن يكون ممكنًا مع نهاية هذا القرن، بدون البقاء طيلة الوقت في النهار داخل أبنية مكيفة الهواء. وهذا تحدٍّ آخر، لأن مناسك الحج بناءً على الترتيبات الحالية، حيث يحمل الحجاج الواقفون على عرفات وفي منى والمزدلفة تحت الشمس مظلة يدٍ لحماية أرواحهم من الشمس، التي يقضون تحتها ما لا يقل عن ثلاثين ساعة موزعة على أيام الحج الخمسة!
التجهيزات المطلوبة تتجاوز بخ أو رش رؤوس الحجاج برذاذ الماء، أو طلاء الممرات والأرضيات بمواد لتبريد الأرجل، فهذه لن تمنع ضربات الشمس والإجهاد الحراري القاتل والاختناق. وسبق أن ساهمت هذه الأجواء الساخنة والخانقة في وفيات مئات الحجاج عامي 1987 و1990. رغم أن السبب المباشر كان التدافع، لكن الحرارة ضاعفت تأثيره بمراحل!
لا يمكن أن تتذرع الحكومة السعودية بعدم مسؤوليتها عن دخول الآلاف من غير المرخص لهم بالحج إلى مكة ومنى وعرفات، أو تنفي الإهمال والتراخي الأمني وتقاعس الإسعاف، فلو رفع أي حاج أو مواطن أو مقيم في السعودية علم فلسطين للاحتجاج، ستنشق الأرض فورًا عن رجال أمن يعتقلونه. وطالما وقعت حوادث الحج السابقة بينما ترافق الحجاج حشود عسكرية وأمنية تتعامل بفظاظة، بدلًا من توفير فرق من الإسعاف الطبي والمدني والمتطوعين، وكأن الحجاج خطر أمني أو متظاهرون محتملون يتعين منعهم أو قمعهم!
أما في مصر، صاحبة النصيب الأكبر من ضحايا الكارثة، فلا يجب الاكتفاء بسحب رخص شركات سياحية، أو التحقيق مع أشخاص استغلوا حاجة المواطن للحج مع غلاء أسعاره، في ظل وجود حج حكومي تنافس فيه الدولة القطاع الخاص في التربح من مواطنيها المطحونين بسبب قراراتها الاقتصادية، والمقموعين بقبضتها الأمنية!