قبل ساعات من انعقاد قمة "الاستقرار والازدهار في المنطقة" التي جمعت قادة الإمارات وقطر والبحرين وعُمان والأردن ومصر، بالعاصمة الإمارتية أبو ظبي في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري، خرج وزير المالية السعودي محمد الجدعان خلال حضوره منتدى دافوس الاقتصادي، بتصريحات تعبر عن رفض بلاده الدفع بمزيد من المساعدات أو المنح المالية لحلفائها دون إجراء تلك الدول إصلاحات اقتصادية.
القمة التي بحثت التحديات التي تشهدها المنطقة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بحسب ما أعلنت وكالة الأنباء الرسمية الإماراتية، تناول جدول أعمالها، الذي تداولته مصادر دبلوماسية عربية، تقديم دعم مالي وسريع إلى مصر والأردن نظرًا لما يمر به البلدان من ظروف اقتصادية صعبة تضغط على حكومتيهما، مع ارتفاع معدلات التضخم إلى نسب غير مسبوقة وهو ما وصل بمنسوب السخط الشعبي إلى حد الخطر.
وكما كان العنوان الأبرز للاجتماع الذي جمع قادة مصر والإمارات والبحرين والعراق والأردن بمدينة العلمين في أغسطس/ آب الماضي، هو غياب ولي العهد السعودي رغم تأكيد وسائل الإعلام المصرية الرسمية وشبه الرسمية حضوره، فيظل العنوان الأبرز لقمة أبو ظبي الأخيرة هو غياب محمد بن سلمان أيضًا.
لماذا غابت الرياض؟
غياب الرياض عن القمتين يعزز الأحاديث المتواترة في الدوائر السياسية والدبلوماسية عن تأزم العلاقات بين القاهرة والرياض من جهة، وبين الأخيرة وأبو ظبي من جهة أخرى.
في النصف الثاني من أغسطس الماضي روجت وسائل الإعلام المصرية لاستضافة مصر لقادة الخليج والعراق والأردن في مدينة العلمين باعتبارها "قمة ستبحث الملفات الاقتصادية والتنموية العربية"، ثم عادت نفس المنصات لتصفها بأنها "اجتماع أخوي تشاوري" وذلك بعدما تأكد غياب السعودية، ورغم ما أثاره هذا الغياب من علامات استفهام إلا أن الصحف المصرية والسعودية لم تقدم إجابة مقنعة لسؤال "لماذا غاب ابن سلمان عن اجتماع العلمين؟".
ومع غياب ولي العهد السعودي عن قمة أبو ظبي الأخيرة تكررت التساؤلات، لكن الأمر لم يعد بحاجة إلى إجابة أو توضيح رسمي فتصريحات وزير المالية السعودي محمد الجدعان كشفت بعض جوانب الأزمة، ذلك أنه ربط استمرار بلاده تقديم أي مساعدات أو دعم مالي إلى الدول الأخرى بتنفيذ تلك الدول لأجندة إصلاحات اقتصادية ومالية "نريد المساعدة لكننا نريد منكم الاضطلاع بدوركم"، كما قال في دافوس.
طلقة الجدعان لم تكن موجهة سوى للقاهرة التي صعَّدت الأزمة المكتومة بينها وبين الرياض مؤخرًا إلى السطح بعد شهور من محاولات مسؤولي البلدين إزالة أسباب الاحتقان خلف أبواب الغرف المغلقة بسبب تحفظ المملكة على منح دعم مالي إلى مصر دون أن يكون هناك عائد أو مردود اقتصادي أو مقابل سياسي.
بعد خروج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرية في مارس/ آذار ماضي تعهدت الرياض بتقديم 15 مليار دولار لمصر، منها 5 مليارات كوديعة في البنك المركزي، جُددت نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لعام آخر قبل حوالي 4 أشهر من موعد الاستحقاق، كما أعلنت أنها ستضخ 10 مليارات دولار في شرايين الاقتصاد المصري عبر الاستحواذ على حصص في شركات مدرجة في البورصة تعمل في مجال البنية التحتية والعقارات والأدوية.
ضخ أي استثمارات سعودية جديدة في الاقتصاد المصري بات مرهونًا بشروط أشار إليها محمد الجدعان
"سنواصل دعم مصر، ليس بشكل مباشر من خلال المنح والودائع فحسب، بل من خلال الاستثمارات"، أوضح الجدعان في دافوس خلال حلقة نقاشية جمعته بمديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا.
ولفت إلى أنه حتى الآن "لم يتم استثمار سوى 1.3 مليار دولار من الاستثمارات التي تعهدت بها السعودية، عندما استحوذت وحدة صندوق الاستثمارات العامة على حصص مملوكة للدولة في أربع شركات مصرية مدرجة في البورصة".
ضخ أي استثمارات سعودية جديدة في الاقتصاد المصري بات مرهونًا بشروط أشار إليها الجدعان في حديثه، وأوضحها مصدر قريب من دائرة صنع القرار في مصر، تحدث مع كاتب هذا المقال عن بعض أسباب الأزمة المتصاعدة بين القاهرة والرياض.
تسعى السعودية، وفقًا للمصدر، إلى الاستحواذ على شركات وأصول سواء مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص دون أن تكون هناك وصاية أو توجيه من الحكومة المصرية، التي طرحت خريطة للشركات والأصول التي تستهدف طرحها للاستثمار فيما أطلق عليه "وثيقة سياسة ملكية الدولة" التي اعتمدها الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل شهر.
ويشير المصدر إلى أن القاهرة تتحفظ على التوجه السعودي بالاستثمار والاستحواذ خارج الخريطة المصرية "في حال ضخت الرياض استثماراتها في شركات القطاع الخاص فلن يعود ذلك على مصر بشيء.. فحصيلة عمليات بيع الشركات المملوكة لرجال أعمال ستُحول على حسابات في بنوك بالخارج، ما يعني أن الاقتصاد المصري لن يستفيد بدولار واحد من تلك العمليات"، لافتًا إلى أن طلب المملكة الاستحواذ على أصول وشركات مملوكة لإحدى مؤسسات الدولة ووجه بالرفض.
ويشير المصدر إلى وجه آخر للأزمة، حيث فوجئت الحكومة المصرية بمطالبة الرياض بسداد ديون قديمة مستحقة على القاهرة لشركة أرامكو السعودية للنفط، "كانت مصر اعتبرت أن شحنات النفط التي أرسلتها السعودية قبل نحو 5 أعوام منحة لا ترد، وفوجئت مؤخرًا بأن الجانب السعودي يطالبها بخصم جزء من حصيلة عمليات الاستحواذ التي تمت خلال العام الماضي لصالح سداد مقابل تلك الشحنات".
تيران وصنافير تعودان للصورة
وزاد من تأزم العلاقة بين الطرفين تعطيل مصر تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، رغم توقيع الطرفين على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والانتهاء من الشق الإجرائي والقانوني وحتى القضائي قبل سنوات، وفقًا لذات المصدر.
وكان موقع أكسيوس الأمريكي أشار نهاية العام الماضي إلى أن تعطيل تسليم مصر للجزيرتين يرجع إلى إيقاف الولايات المتحدة جزءًا من مساعداتها المالية السنوية للقاهرة.
ووفقًا لأكسيوس، كان من المفترض أن تسحب واشنطن قوات حفظ السلام التابعة لها من الجزيرتين نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلا أن مصر أظهرت مؤخرًا تحفظات ذات طبيعة فنية، بما في ذلك المتعلقة بتركيب كاميرات مراقبة بالجزر، وهو ما ورد ضمن اتفاقية نقل الجزيرتين، على أن تراقب القوات متعددة الجنسيات الوضع بهما من داخل شبه جزيرة سيناء عبر تلك الكاميرات.
التوتر الذي شاب العلاقات بين البلدين تحول إلى رسائل مبطنة تم تداولها عبر القنوات التليفزيونية خلال الأيام الأخيرة، بعدما تجرأ عدد من المذيعين والسياسيين المصريين المحسوبين على السلطة في مصر على انتقاد المملكة وأجندتها التي يتبناها بعض الإعلاميين المصريين العاملين في قنوات سعودية. لدرجة أن أحدهم اتهم زميله على الهواء بأنه "عميل سعودي تم تجنيده لتنفيذ أجندة الكفيل"، فقط لأن هذا "العميل" دأب على "تخويف المصريين وإشاعة الإحباط واليأس، ويبشر بأن الأوضاع في مصر ستزداد سواء في المرحلة المقبلة" ببرنامجه الذي يذاع على فضائية سعودية.
لا يعلم أحد إلى أي حد قد يصل توتر العلاقات بين مصر والسعودية، لا سيما أن الرياض صارت أقرب في تعاملها مع القاهرة إلى المؤسسات المالية الدولية التي تضع شروطًا وتطالب بإصلاحات اقتصادية ومالية قبل ضخ أي أموال. ولا يمكن التكهن في ظل تلك التعقيدات هل ستفي المملكة بتعهداتها باستثمار 10 مليارات دولار في مصر، وهل ستقبل الأخيرة الشروط وتقدم خطة إصلاحات لجارتها كما تفعل مع صندوق النقد الدولي؟