منشور
الاثنين 16 يناير 2023
- آخر تحديث
الخميس 16 فبراير 2023
لم تكن قد مرت سوى 24 ساعة فقط على إعلان الحكومة المصرية قرارها بـ"ترشيد الإنفاق العام بالجهات الداخلة في الموازنة العامة والهيئات الاقتصادية"، حتى فوجئ الرأي العام بخبرين صادمين ينسفان فكرة الترشيد من أساسها، ويلقيان بظلال من الشك على قدرة أو حتى رغبة مسؤولينا في تقديم حلول لتطويق الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
الخبر الأول، ونشرته جريدة الشروق في صدر صفحتها الثالثة بعدد الأربعاء 11 يناير/ كانون الثاني، بشرتنا فيه وزارة النقل بأنها وضعت "اللمسات النهائية لتدشين مشروعي مونورويل العاصمة الإدارية والخط الأول للقطار الكهربائي السريع"، وفق ما نقلت الجريدة عن مصدر مسؤول بالوزارة، ولفت هذا المصدر إلى أن "الوزارة تستهدف الانتهاء من المشروعات التي يتم تنفيذها حاليًا في نطاق العاصمة الإدارية الجديدة لتكون جاهزة بالتزامن مع انتقال الحكومة إليها".
أما الخبر الثاني، الذي صدَّرت به جريدة المصري اليوم الصفحة الثالثة من عدد الخميس 12 يناير، فأعلن فيه وزير الإسكان عاصم الجزار أن وزارته تكثف جهودها للانتهاء من تنفيذ الأبراج الشاطئية والمنطقة الترفيهية والمدينة التراثية بمدينة العلمين الجديدة، وشرح الوزير الجهود التي تبذلها وزارته لتشطيب الجزء الشاطئي من الممشى السياحي بطول 7 كيلومترات، وممشى البحيرة وأبراج الداون تاون الفارهة المطلة على البحر، التي يتم تنفيذها على غرار أبراج منطقة الأعمال بالعاصمة الإدارية، وبتمويل ذاتي من هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.
في قرارها الصادر يوم 4 يناير المنشور بالعدد 52 مكرر (د) في الجريدة الرسمية بتاريخ 4 يناير ونشرته صحف القاهرة 10 يناير، أقرت الحكومة بأن مصر تمر بأزمة اقتصادية، وهو ما يستدعي ترشيد الإنفاق الحكومي في كثير من البنود، وركزت عناوين معظم الصحف على البند الخامس الخاص بـ"تأجيل تنفيذ أي مشروعات جديدة لها مكون دولاري"، فيما جاءت البنود الخاصة بترشيد السفر لخارج البلاد وحظر الصرف على المنح التدريبية واعتمادات الخدمات الاجتماعية والرياضية والترفيهية للعاملين بالحكومة، في العناوين الفرعية باعتبارها أقل أهمية.
في البند السادس من هذا القرار ألزمت الحكومة نفسها بتأجيل الصرف على أية احتياجات لا تحمل طابع الضرورة القصوى، وهو ما يتعارض مع الخبرين المشار إليهما.
يرى البعض أن استكمال المشروعات القائمة لا يتعارض مع البند الخامس من إعلان الترشيد الحكومي والذي ذهب إلى أنها ستلتزم بعدم تدشين مشروعات جديدة يدخل فيها مكون دولاري، لكنها ملتزمة بإنهاء المشروعات التي بدأت فيها، لكن البند اللاحق تحدث عن تأجيل الصرف على أي احتياجات لا تدخل تحت بند الضرورة القصوى.
التناقض الواضح بين تفسير البندين، والتعارض بين ما جاء في إعلان الترشيد وما يجري تنفيذه على الأرض يكشف مدى الارتباك في دوائر صناعة القرار داخل السلطة، أو على الأقل عن غياب التنسيق بين مُصدِر القرار الأصلي وواجهات تنفيذه.
لا يُعقل أن تكون حكومة مصطفى مدبولي هي التي أصدرت بيانًا تعلن فيه عن تأجيل الصرف على الاحتياجات التي لا تحمل طابع الضرورة القصوى، وفي ذات الوقت تتباهى بأنها تكثف الجهود للانتهاء من مشروعات ذات طابع ترفيهي، لا حاجة إليها في ظل الأزمة الخانقة التي تواجهنا.
فلا انتقال المقار الحكومية بمسؤوليها وموظفيها إلى العاصمة الإدارية ضرورة ملحة، ولا تشطيب واجهات الأبراج الفارهة بمدينة العلمين حاجة قصوى، فالمدينتان لم يتم تشغيلهما حتى تاريخه ولهما بدائل داخل الحيز العمراني الحالي، ويكفي أن يُذكر ما يتم فيهما من إنشاءات فخمة، على غرار البرج الأيقوني وأكبر مسجد وأكبر كنيسة وقصور رئاسية ومقار حكومية، حتى تُستفز مشاعر المواطنين الذين أضنتهم الحاجة والعوز كنتيجة مباشرة لفشل سياسات السلطة الاقتصادية.
الحديث عن استكمال العمل في تلك المشروعات لا يستفز المواطن المطحون فحسب، بل يُفقد الحكومة ثقة مسؤولي صندوق النقد الدولي الذين تعهدت أمامهم بـ"إبطاء وتيرة الاستثمار في المشروعات العامة" بما في ذلك المشروعات القومية، وذلك للحد من التضخم والحفاظ على العملة الأجنبية"، بحسب ما جاء في خطاب النوايا الذي وجهته الحكومة للصندوق قبل موافقته نهاية العام المنصرم على منح مصر قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار، تُصرف على دفعات متتابعة لمدة 46 شهرًا، مشروطة بتنفيذ إصلاحات هيكلية حاسمة، وفق ما أعلن الصندوق في بيان له الثلاثاء الماضي، كشف فيه عن المفاوضات التي دارت بينه وبين الحكومة المصرية قبل الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن منحها القرض.
أما الجهات الدائنة الأخرى، تحديدًا دول الخليج العربي، فاستمرار العمل في مثل تلك المشروعات سيؤلبهم على الحكومة المصرية التي حصلت منهم خلال الأعوام الثماني الأخيرة على العديد من المنح والقروض، ونتيجة للأزمات المتتابعة وعدم تمكننا من سداد أقساط قروض قدرت بنحو 28 مليار دولار، قررت تلك الدول تمديد آجال ودائعها لدى البنك المركزي، ومنها السعودية، عندما قررت الرياض تجديد وديعتها لدى مصر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
تحولت حكومات الخليج من الداعم والمانح إلى الصياد الماهر الذي يبحث عن الشركات الرابحة للاستحواذ عليها
ضاق صدر دول الخليج من طلب الدعم المصري المجاني، ورفع حكامها الجدد شعار "لا توجد منح مجانية أخرى" وهو ما عبر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال افتتاحه المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بقوله "الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم قناعة بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن الدعم والمساندة التي قدموها للبلاد عبر سنوات شكلت ثقافة للاعتماد عليها".
وألمح السيسي خلال حديثه إلى أن البعض كان يرى أن الدعم من هذه الدول هو الحل الأول والأخير للأزمات في مصر، "لما حد يقابل مشكلة يقولك طب ما يسافر، خلاص الناس ساعدت كتير قوي وبقالها سنين بتساعد وأنت مساعدتش نفسك عمرك أبدًا ما عودك هيصلب"، في إشارة إلى مطالبة بعض المسؤولين له بالسفر لطلب الدعم من دول الخليج.
لم تضخ عواصم الخليج منذ تفاقم الأزمة الاقتصادية في الشهور الأخيرة دولارًا واحدًا كمنحة أو قرض في البنك المركزي المصري، وباستثناء تمديد آجال ودائعها القديمة لم تحصل الحكومة المصرية على أي دعم خليجي، بحسب ما يقول مصدر مقرب من دوائر اتخاذ القرار لصاحب هذه السطور، لافتًا إلى أن الطرفان، مصر ودول الخليج، اتفقا بشكل ضمني على معادلة جديدة، وهي التحول من مبدأ المعونات والقروض إلى الاستثمار والاستحواذ على شركات وأصول الدولة.
تحولت حكومات الخليج من الداعم والمانح إلى الصياد الماهر الذي يبحث عن الشركات الرابحة والأصول الاستراتيجية للاستحواذ عليها في مصر، والحكومة وتحت ضغط الحاجة تبيع كما المضطر بـ"البخس".
من شأن إعلان الحكومة عن استمرار إنفاق مواردها على مشروعات من عينة (المونوريل والقطار السريع والأبراج الإيقونية.. إلخ) أن يدفع المستثمرون العرب وغيرهم ممن يستهدفون أصولنا إلى العزوف عن ضخ أي استثمارات جديدة في السوق المصرية نظرًا للأزمات المرشحة للتصاعد في ظل ارتباك السياسات وغياب الرؤية وانعدام الرشادة في ترتيب أولويات الإنفاق، أو تقييم تلك الأصول بقيمة أقل مما تستحق وعلى المديون المأزوم أن يقبل.
لا توجد مؤشرات على أن السلطة لديها نية جادة لمراجعة أخطائها وإعادة النظر في سياساتها وتوجهاتها التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، فالطبع يغلب التطبع، ويبدو أن الإهدار والإنفاق على ما هو أقل أهمية والتقتير والضن على ما هو أهم صار طبعًا أو مبدًأ يصعب على حكامنا العدول عنه، فمن يطالب الناس بالتوقف عن التعبير عن ضجرهم وضيقهم باعتباره "هري" ويدعوهم إلى عدم الاستماع سوى لغيره لا يتوقع أحد منه أن يعيد النظر في سياسته، أو أن يعتبر مما حدث فيبحث عن طريق جديد عسى أن يكون فيه مخرجًا.