قبل أقل من عامين وفي واحدةٍ من حلقات الأزمة الاقتصادية المستحكمة، دعا رئيس الجمهورية إلى عقد مؤتمر اقتصادي يضم المتخصصين والمختلفين في الرأي لـ"الوقوف على الأوضاع التي وصلت إليها الدولة"، والتوافق على خارطة طريق اقتصادية واقتراح سياسات وتدابير واضحة تسهم في زيادة تنافسية ومرونة الاقتصاد المصري.
استعرضت جلسات المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام، وشارك في فعالياته وزراء ومسؤولون وخبراء ورجال أعمال، أسباب الأزمة من كل الجوانب، كما وجه بعض الحضور انتقادات حادة لسياسات الحكومة الاقتصادية والنقدية، فيما أعاد عدد من الساسة الذين شاركوا في تلك الجلسة الأزمة إلى أصلها المتمثل في تأميم المناخ العام، بما لا يسمح بوضع السلطة التنفيذية تحت مظلة الرقابة والمساءلة والمحاسبة، لتحقيق الشفافية والمكاشفة بما يشجع على تهيئة المناخ للاستثمار، ما يوفر العملة الصعبة ويزيد من فرص العمل.. إلخ.
ولكن ما إن انتهى ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ومنسق المؤتمر، من الإعلان عن التوصيات والمقترحات التي صاغها عدد من الخبراء والمختصين، حتى باغت الرئيس السيسي الجميع بقوله "اوعوا حد يزعل مني، كل المقترحات اللي اتقالت، أي طالب في كلية سياسة واقتصاد، بيتكلم فيها، لكن إزاي تعملوها، كلامي هيبقى كده".
السيسي أضاف خلال كلمته في الجلسة الختامية بالمؤتمر الذي عقد نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022 "كل الكلام اللي تم التوافق عليه، ملتزمين إننا نعمله، معملناش الحوار عشان نستهلك جهدكم وجهدنا، اللي اتقال مقدر ومحترم، كدولة وحكومة ملتزمين، لا بد للمؤتمر ده يكون فيه آليات مستقرة عشان نقدر ننفذ لو قابلتنا مشكلة".
التحضير لذلك المؤتمر كان متزامنًا مع مفاوضات تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على قرض جديد، وبالصدفة خرجت توصيات المؤتمر لتشمل بندًا بسرعة الوصول إلى اتفاق مع الصندوق، وكذا ضرورة "تحديد سعر مرن للصرف ليعكس ديناميكيات السوق من العرض والطلب، كأداة لامتصاص الصدمات الخارجية".. إلخ.
ما بعد المؤتمر
وبمجرد اختتام المؤتمر لأعماله، أعلن البنك المركزي انتقال مصر إلى "نظام سعر صرف مرن" ليصل سعر الدولار الرسمي إلى 23 جنيهًا للمرة الأولى حينها، ما تسبب في موجة تضخمية جديدة تضاف إلى ما سبقها من موجات. وفي التوقيت نفسه تقريبًا أعلن صندوق النقد عن وصوله إلى اتفاق مع الحكومة المصرية على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار تصرف على شرائح شريطة تنفيذ الحكومة حزمة إصلاحات اقتصادية.
حزمة الإصلاحات التي اشترط الصندوق تنفيذها وقتها شملت إلى جانب التحول إلى نظام سعر الصرف المرن، تنفيذ سياسة نقدية تهدف إلى تخفيض معدلات التخضم، والضبط المالي وإدارة الدين لضمان تراجع الدين العام، وتقليص بصمة الدولة على الاقتصاد بما يضمن منافسة عادلة بين جميع الكيانات الاقتصادية، وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام.
معظم بنود الاتفاق مع الصندوق طُرحت ونوقشت خلال المؤتمر الاقتصادي، وخرج بعضها ضمن توصياته، إلا أن حكومتنا الرشيدة لم تنفذ لا هذه ولا تلك، فلم تستمع إلى الخبراء الذين دعتهم للمناقشة والبحث وطرح الحلول، كما لم تنفذ شروط الصندوق الذي أرى كما العديد غيري من المراقبين أنه لا يدخل على الدول النامية إلا بالخراب المستعجل.
من باب الحبكة وحتى لا يكون قرار التعويم حكوميًا يبدو أننا سنعقد مؤتمرًا أو حوارًا مجتمعيًا جديدًا
وفيما استمرت السلطة في سياساتها وتوجهاتها ومشروعاتها القومية التي تحمل "بصمة الدولة" متجاهلة نصائح القريب وشروط الغريب، توقف صندوق النقد عن صرف شرائح القرض باستثناء الشريحة الأولى التي صُرفت مطلع عام 2023، لتستحكم الأزمة أكثر من ذي قبل، وليصل الدين الخارجي والمحلي إلى مستويات قياسية ويهبط سعر العملة المحلية إلى مستويات فاقت أي تصور، وتزايدت معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، ولأول مرة منذ عقود تختفي سلع أساسية من الأسواق، لتتدهور الأحوال المعيشية لعموم الناس أكثر فأكثر.
ولأنَّ السلطة تأبى طرح برنامج تفصيلي مجدول، توصِّف فيه أزمات البلاد وتقدم لها حلولًا تتناسب مع إمكانياتها، ولأنها لا تعرف سبيلًا لمعالجة العجز الذي يلاحق الموازنة العامة في السنوات الأخيرة سوى الاقتراض، لجأت مجددًا إلى صندوق النقد، أولًا؛ لصرف الشريحتين المتأخرتين من القرض المتفق عليه نهاية 2022، وثانيًا؛ لرفع قيمة القرض إلى ستة مليارات دولار بالشروط نفسها التي حددها الصندوق سلفًا ولم يُنفذ منها شيء، حتى السعر المرن للصرف الذي تعهدت به قبل التوقيع على القرض استبدلت به ما يعرف بـالتحرير المدار.
ورغم أن الرئيس السيسي أعلن عن تحديه الصندوق ورفضه تنفيذ شروطه عندما قال خلال المؤتمر الوطني للشباب الذي عقد في شهر يونيو/حزيران الماضي "عندما يتعرض الأمر لأمن مصر القومي والشعب المصري يضيع فيها لأ، عندما يكون تأثير سعر الصرف على حياة المصريين وممكن يضيعهم إحنا منقعدش في مكاننا، حتى لو هيتعارض مع شروط الـ... انتوا فاهمين قصدي".
ورغم أن سعر الدولار في السوق السوداء في ذلك الوقت كان في حدود 40 جنيهًا، فإن الرئيس أشار إلى أن سعر الصرف لو وصل إلى 50 أو 60 جنيهًا فسيعاني المواطن، وهو ما لن يسمح به.
ما قبل المؤتمر
لكن يبدو أنَّ غياب الرؤية سيضطر الحكومة إلى تنفيذ شرط الصندوق المبدئي بتحرير سعر الصرف أو على الأقل الإعلان عن سعر جديد حتى يقترب السعر الرسمي من سعر السوق السوداء ليوافق الصندوق على سداد الشريحتين المتأخرتين وبحث زيادة القرض.
ومن باب الحبكة وحتى لا يكون قرار التعويم قرارًا حكوميًا، يبدو أننا سنعقد مؤتمرًا أو حوارًا مجتمعيًا جديدًا، ليطرح مجموعة من التوصيات من بينها اللجوء مجددًا إلى الصندوق وتنفيذ شروطه بما فيها "سعر مرن للصرف"، وهو ما سيؤدي إلى زيادة جديدة في معدلات التضخم، وانهيار في الأحوال المعيشية للناس.
وبالمرة يطرح في الحوار المترقب وثيقة الحكومة التي تقترح توريق بين 20 و25% من مصادر إيرادات الدولة الدولارية لتوفير العملة الصعبة، وهو المقترح الذي إذا تم تنفيذه سيوفر بالفعل سيولة دولارية لكنه لن يقدم حلًا استراتيجيًا، فهو نوع من السندات لكن بضمان أصل ثابت، ما يعني ديونًا جديدة نسددها من إيرادات مضمونة، وهو لا يختلف عن حلول الحكومة التي تدور كلها في فلك الديون، لكنه يزيد عليها تعريض هذه الأصول الحيوية لخطر الانتقال إلى حوزة الدائنين إذا لم نتمكن من سداد أقساط الديون.
خلال كلمته في احتفالية عيد الشرطة قبل أيام، قال الرئيس السيسي إن مصر تتعرض لأزمة واحدة تتمثل في الاقتصاد، لافتًا إلى أنَّ الحوار الوطني كان فرصة جيدة للحديث حول موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، داعيًا لإطلاق حوار أعمق وأشمل فيما يخص الاقتصاد.
أزمة مصر ليست في الاقتصاد بل أزمة سياسية بامتياز، أزمة غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة، أزمة إنكار وعدم اعتراف بالمسؤولية عن الأخطاء بل الإصرار على أن ما جرى خلال العقد الماضي هو متوالية من الإنجازات غير المسبوقة.
مصر تحتاج إلى حوار بالفعل، حوار سياسي يضعها على أول طريق الإصلاح الديمقراطي، حتى يتمكن الشعب من إنفاذ إرادته واختيار حكامه ومن يراقب أعمال هؤلاء الحكام ويسائلهم ويحاسبهم، ويعزلهم إن تطلب الأمر.