ربما سمعتم عن تجربة الضفدع والماء المغلي.
إذا وضع ضفدع في إناء من الماء البارد ثم تم تسخينه ببطء، يتحول الماء البارد إلى فاتر، ثم إلى ساخن قليلًا، ثم ساخن. ومع كل انتقال من مرحلة إلى أخرى يتكيف الضفدع مع درجة الحرارة الجديدة، فلا يشعر بأن هناك ما يدعو للقلق، وعندما يقترب الماء من الغليان يدرك الضفدع أخيرًا أن عليه القفز خارج الإناء لكن يكون فات أوان النجاة؛ لأنه أهدر كل طاقته في محاولات التكيف.
كان أمامه عشرات الفرص للقفز، لكنه لم يقرأ إشارات الخطر مفضّلا التكيف، وربما أقنع نفسه بأنه لو فاتت فرصة فستأتي أخرى، لكن الفرص نفدت والضفدع مات.
في مصر أزمة اقتصادية حقيقية، يمكنك أن تلمس مؤشراتها في كل مكان، عملة محلية فقدت نحو نصف قيمتها أمام الدولار في عام واحد، ديون خارجية تضاعفت ثلاث مرات بين 2016 و2022، حتى أن أقساطها وفوائدها تبتلع 54% من إجمالي الإنفاق العام في الموازنة الحالية، ومعدلات تضخم هي الأعلى منذ 2017، يتم مواجهتها برفع قوي في أسعار الفائدة، ولجوء إلى صندوق النقد الدولي بشكل متكرر خلال السنوات الستة الماضية.
لدى المسؤولين المصريين يقين قاطع بأمرين، أن الأزمة مستوردة وأسبابها بالكامل خارجية نتيجة تبعات أزمة كورونا والحرب الأوكرانية، وأن الأزمة ستمر بسلام. ولكن حتى تقفز مصر خارج إناء الماء الساخن في الوقت المناسب يجب أن يعيد المسؤولون عن قرارها السياسي والاقتصادي التفكير في الأمرين.
الأزمة مستوردة؟
نعم، جانب منها كذلك، لكن ثمة قرارات ومواقف ورهانات اقتصادية للإدارة الحاكمة فاقمت منها وجعلت تأثيرها على مصر أكثر حدة من نظيراتها من الاقتصادات الناشئة.
عندما تولت السلطة الحالية مقاليد الحكم انهالت عليها المساعدات الخليجية، ووصلت إلى مستويات غير معتادة، حيث بلغت نحو 96 مليار جنيه في 2014. لا يعرف أحد حتى الآن فيما أنفقت، حتى أن تقرير سابق للجهاز المركزي للمحاسبات، في عهد رئيسه المحبوس حاليًا المستشار هشام جنينة، كشف أن وزارة المالية استقطعت 6 مليارات دولار من المنح وأخفتها في حساب خاص تحت تصرفها بالبنك المركزي.
منذ بداية أزمة كورونا قبل ثلاث سنوات ودخول الاقتصاد العالمي نفق التباطؤ والركود أصر المسؤولون في مصر وعلى رأسهم الرئيس السيسي على استكمال "المشروعات القومية"، بنفس الوتيرة دون تأجيل أو إبطاء. وكان رجال الدولة يتفاخرون بذلك ويرونه دليلًا على قوة اقتصادنا وعدم تأثره بالأزمة.
تلك المليارات التي أُنفقت على مشروعات بنية تحتية لا يُنتظر منها عائد مباشر على المدى المنظور، نلجأ الآن للمانحين ليعوضونا عنها بقروض ومنح. وذات الأزمة العالمية التي أكدنا لسنوات عدم تأثرنا بها، أصبحنا الآن نستخدمها لإخلاء مسؤوليتنا عن أي فشل أو تقصير.
راهنت الدولة على الأموال الساخنة لتوفير السيولة الدولارية ومن ثم استقرار سعر الصرف، وهو رهان حذر منه الاقتصاديون وأكدوا أن استقرارًا قائمًا على هذا النوع من الأموال ما هو إلا استقرارًا هشًا، سينتهي مع أول اختبار.
لكن انتهى الأمر بأن مئة مليار دولار زيمبابوي كانت تكفي بالكاد لشراء ثلاث بيضات!
جاء الاختبار ورفعت الأسواق الغربية الفائدة، فسحب المستثمرون في أدوات الدين عشرات المليارات من السوق المصرية في وقت واحد، فانكشف ظهر الاقتصاد واختفى الدولار وعجزت الدولة عن إيجاد الحلول.
تتخذ السلطة قراراتها الاقتصادية منذ جاءت بفردية كاملة، دون إشراك في اتخاذ القرار قبل اتخاذه، ولا رقابة عليها أثناء تنفيذه، ولا محاسبة بعد اكتشاف خطئها. وبعد كل هذا التعثر ما زال رئيس الوزراء، ووزراء المجموعة الاقتصادية وعلى رأسهم وزير المالية، في أماكنهم. ولم تفكر السلطة حتى في استخدامهم ككبش فداء، لأنها من ناحية تعرف أنهم كانوا مجرد منفذين للسياسة التي اختارتها هي، ثم أنها من ناحية أخرى لا تعترف أصلًا بأن هناك أزمة إدارة حتى تُقصي مَن فشل.
كان يمكن أن يكون تأثير الأزمة المالية العالمية على مصر أقل كثيرًا لو جاءت على اقتصاد مستقر ومتين.
الأزمة ستمر بسلام؟
في زيمبابوي، كان لدى المسؤولين يقين بأن أزمتهم لن تطول، لكن انتهى الأمر بأن مئة مليار دولار زيمبابوي كانت تكفي بالكاد لشراء ثلاث بيضات!
وكان المسؤولون في اليونان يقللون من خطورة الإنفاق الحكومي غير الرشيد حتى وصل البلد العضو في الاتحاد الأوروبي إلى حافة الإفلاس، لتعيش اليونان بعدها على حِزم الإنقاذ.
الشاهد أنه ليس كل الأزمات تمر، بل بعض الأزمات تقضي على الدول وتغرقها. ولكي تمر الأزمات يجب أن تعترف الدولة بوجودها أصلا، ثم تتخذ خطوات حقيقية وجادة للنجاة منها.
مهم أن تعترف السلطة بأنها أخطأت في تقدير وإدارة الملف الاقتصادي بشكل عام، وأنها أهدرت مليارات وفرص كانت كفيلة ليس فقط بتجنيبنا هذه الأزمة، لكن أيضًا بوضع مصر اقتصاديًا في مكان أفضل مما كان عليه الوضع قبل 2013. على السلطة الاعتراف بأنها رتبت الأولويات بشكل جعل الإنفاق في غير محله هو الأصل، وما دونه استثناء. وعليها ألّا تثق كثيرًا في أن الأزمة ستمر، فتهلك قواها في رهان الصبر والتكيف، كما فعل الضفدع.
على الدولة الآن أن تعيد ترتيب أولوياتها، وتوقف المشروعات غير ذات الجدوى، أو تلك التي ستظهر جدواها على المدى الطويل، وأن تتخلى عن طموحها بالسيطرة على القطاعات الرابحة، وتُخرج أذرعها الاقتصادية من السوق، وألّا تسقط مجددًا في فخ الأموال الساخنة واستسهال الاستدانة، وأن تدعم الأنشطة الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة وتعظم استفادتها من القطاعات الجاذبة للعملة الأجنبية.
من المهم أن تراجع الدولة مواقفها، وتدرك أن كثيرًا من قراراتها كان كارثيًا. من المهم أن تفعل ذلك حتى ولو لم تعلن ذلك الاعتراف. لا أحد يهتم الآن بأن يحقق نقاطًا سياسية على حساب الطرف الحاكم، لا أحد يفكر حتى في أن يكون بديلًا ويدفع الفاتورة الباهظة لسلفه، المهم أن يمر الجميع من هذه الأزمة التي يدرك جيدًا كل المتخصصين في الاقتصاد كم هي سوداوية السيناريوهات.