قبل شهرين تقريبًا صرح رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي بأن "المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تقترب من مراحلها النهائية"، وها هو أكتوبر / تشرين الأول يكاد أن ينتهي، لتدخل المفاوضات، التي بدأت في مارس/ آذار، شهرها السابع دون التوصل لاتفاق نهائي.
فلماذا يتأخر الاتفاق كل هذا الوقت رغم إلحاح الظرف الاقتصادي في مصر بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار المواد الأولية والخروج الكبير لرؤوس الأموال الأجنبية؟
تتفاوض مصر للمرة الثالثة في ست سنوات على تمويل من صندوق النقد الدولي. فبعد أن وقَّعت مصر اتفاق القرض المعروف مع الصندوق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وبمقتضاه حصلت على 12 مليار دولار، عادت وحصلت على تسهيلات ائتمانية في مطلع 2020 بصورة اتفاق استعداد ائتماني وآخر للتمويل الطارئ، لمواجهة آثار وباء كورونا بلغ إجمالها نحو 8 مليارات.
ولم يمر الربع الأول من 2022 إلا وكانت الحكومة تطلب من الصندوق تمويلًا جديدًا، لم تُعرف قيمته النهائية بعد. لماذا تحتاج مصر بهذه الوتيرة المتكررة والمتسارعة لمساعدات من الصندوق كي تُبقي على استقرارها الاقتصادي والنقدي؟
لمصر تاريخ طويل مع صندوق النقد الدولي تعود أولى حلقاته إلى اتفاق وقعه الرئيس السادات في 1976، لعلاج الاختلالات المالية والنقدية عن طريق جملة من الإجراءات التقشفية، والتي أدت إلى ما عٌرف بأحداث يناير 1977، ما دفع السادات إلى إلغاء زيادات الأسعار والرجوع في الاتفاق مع الصندوق.
وتكرر الأمر مرة أخرى في 1987 مع حسني مبارك، الذي وقع اتفاقًا مع الصندوق تطلّب إجراءات تقشفية وإعادة هيكلة مالية، كان مبارك يراها صعبة التمرير سياسيًا، فلم يكتمل البرنامج إلى أن وقعت مصر اتفاقًا ثالثًا مع الصندوق (وآخر للتحول الهيكلي مع البنك الدولي) في 1991.
ولكن ذلك الاتفاق كانت له ملابسات شديدة الخصوصية لأن مديونية مصر الخارجية وقتها، والتي كانت تقارب 45 مليار دولار، أي نحو 116% من الناتج القومي الإجمالي في 1989 طبقًا لتقديرات البنك الدولي مقارنة بنحو 35% في الوقت الحالي، تم إلغاء نصفها مقابل انضمام مصر للتحالف الدولي لتحرير الكويت مع إعادة جدولة النصف الآخر.
وفي أعقاب هذه التطورات الإيجابية، وقعت مصر اتفاقًا مع الصندوق، مُنحت بمقتضاه تسهيلات لم تضطر الحكومة لسحبها فعليًا.
وفي المقابل، فإن الحكومة لم تلتزم بشكل كامل بما ورد فيه، خاصة فيما يتعلق بتخفيض العجز في الموازنة العامة للدولة، التي أخذت في الارتفاع خلال النصف الثاني من التسعينيات مع التوسع في التوظيف الحكومي والتلكؤ الشديد في إلغاء دعم المحروقات، والتي رآها مبارك مرة أخرى مخاطرة غير مستحقة، بما إن إلغاء وإعادة جدولة الديون الخارجية أتت فعلًا بأثرها المطلوب.
كان اتفاق مصر مع الصندوق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، مخالفًا تمامًا للحلقات السابقة في شقين اثنين: أولهما أن مصر استخدمت بالفعل التسهيلات التي منحها الصندوق إياها مرة بشكل مباشر، ومرة أخرى بشكل غير مباشر، باستخدام الاتفاق كشرط مبدئي وأساسي للولوج إلى أسواق المال العالمية والتوسع في الاقتراض الخارجي لإعادة بناء الاحتياطيات الأجنبية.
حضور الصندوق في صنع السياسات النقدية والمالية المصرية منذ 2017 لم يسهم في إيجاد حلول لتلك المشكلات، ولا حتى في الحد من تفاقمها
وثانيهما، أن الحكومة المصرية التزمت التزامًا صادقًا ومخلصًا بأغلب ما تم الاتفاق عليه في 2016، مع الصندوق خاصة، والذي دار بالأساس حول استعادة التوازن المالي من خلال تخفيض الإنفاق العام عبر تقليص الدعم وزيادة العائد الضريبي، عبر التوسع في الضرائب غير المباشرة كالقيمة المضافة.
وعلى صعيد القطاع الخارجي، كان تحرير سعر الصرف، الذي عُرف بالتعويم، هو السبيل المثالي في تصور الصندوق للتخفيف من العجز في ميزان المدفوعات عن طريق تخفيض الواردات وتحفيز التصدير.
ويمكن القول بأن استعادة الاستقرار في المؤشرات الاقتصادية الكلية كان أساسيًا للتوسع في الاقتراض الخارجي. ودأب الصندوق في الفترة التالية على 2016 على الإشادة بأداء الحكومة المصرية، ونجاحها في إعادة إطلاق معدلات النمو والتشغيل وتحقيق قدر كبير من الاستقرار في مواجهة ظروف استثنائية كالظرف الوبائي منذ 2020.
إذن، قامت الحكومة المصرية بما ينبغي عليها القيام به وربما أكثر قليلًا. صحيح أن أسلوب إدارة سعر الصرف كان محلًا للنقد بين الفينة والأخرى من الصندوق كونه استمرارًا للتعويم المدار، رغم إدعاءات التعويم الكامل، إلا أن هذا لم يبدُ مشكلة أساسية في مفاوضات 2020، خاصة وأنه لم يحُل دون تخفيض كبير للجنيه في مواجهة الدولار في مارس 2022، بارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه بنحو 270% منذ نهاية 2016. فلم التلكؤ هذه المرة؟
في اعتقادي أن الصندوق يواجه مأزقًا جوهريًا يتمثل في أنه رغم التزام الحكومة المصرية، لا فحسب باتفاق 2016 والذي انتهى في 2019، إنما بقواعد الصندوق في إدارة السياسات المالية والنقدية حتى بعدها، فالاقتصاد المصري لا يزال يواجه معضلات تمويلية ملحة تجعله عرضة لأزمات مع الاضطرابات الخارجية أيًا كان مصدرها، على نحو يدفعه للحاجة المستمرة للمساعدة من الصندوق، وللتمويل الخارجي عامة.
ربما لم تلتزم الحكومة المصرية بـ100% من شروط الصندوق، ولكن الوفاء بـ90% أو 85% لا يجعلها غير ملتزمة. ولعل أكبر دليل على التزامها هو كيل المديح للأداء الحكومي والاقتصادي من جانب الصندوق بشكل دائم حتى آخر 2021.
من الناحية الموضوعية، قد لا يكون الصندوق مسؤولًا عن مشكلات الاقتصاد المصري. بل إنه غير مسؤول في الأغلب، بالنظر لطبيعة المشكلات الهيكلية وجذورها التاريخية، وكون نطاق عمل الصندوق هو علاج الاختلالات المالية والنقدية قصيرة إلى متوسطة المدى في الدول الأعضاء.
ولكن مع هذا، يمكن القول حتمًا إن حضور الصندوق في صنع السياسات النقدية والمالية المصرية منذ 2017 لم يسهم في إيجاد حلول لتلك المشكلات، ولا حتى في الحد من تفاقمها. لقد نجحت مصر حيث أراد الصندوق لها أن تنجح بمشروطيته وتقاريره وإرشاداته، بينما فشل الصندوق نفسه في محتوى الشروط والسياسات التي أملاها ويمليها.
لقد حققت سياسات الصندوق استقرارًا وقتيًا في الكثير من المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية بالاعتماد على التوسع الكبير في الاقتراض الخارجي، بما في ذلك التمويل عبر اجتذاب رؤوس الأموال قصيرة الأجل. ولكن في المقابل ظل البرنامج بعيدًا عن الخوض في جذور المشكلات المالية والنقدية، كحال المحتوى القطاعي للنمو، ونوعية هذا النمو وتأثيره على تحسين وضع الاقتصاد الخارجي على المدى الطويل، ولا أقول أثره التنموي، بل وتسامح مع وجود سياسات حكومية لا تعالجها كالاعتماد في توليد النمو على قطاعات غير تجارية لا تزيد من التصدير ولا تقلل من الاستيراد.
من الناحية الفعلية، فإن صندوق النقد الدولي تحوَّل إلى نوع من المقُرِض الأخير لزبائنه في ظروف التعسر المالي، وهو دور درج الصندوق على لعبه مرارًا. ولكن لنتجنب إذن الحديث المتكرر عن دور الصندوق في "الإصلاح الاقتصادي"، ولنتجنب كذلك إلقاء اللوم على الجانب المصري لعدم فعله ما كان مطلوبًا منه لأننا بصدد وضعية من نوعية العملية نجحت ولكن المريض مات.