مرت يوم الاثنين الماضي، 17 أكتوبر/ تشرين الأول، ذكرى مرور 49 سنة على قرار حظر البترول العربي عن أمريكا وحلفائها بسبب دعمها إسرائيل وإعادة تزويدها بالسلاح والذخيرة، بعد أسبوع واحد من بدء حرب السادس من أكتوبر 1973.
بدأ الحظر تدريجيًا بتخفيض الإنتاج، لكنه أصبح حظرًا كاملًا بعد شهرين، في ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، على الولايات المتحدة وهولندا والدنمارك.
تزعم القرار العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز، وكشفت وثائق الخارجية الأمريكية، المرفوع سريتها لاحقًا، أن وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر كان يماطل في اتصالاته مع الملك ليبرر تزويد أمريكا لإسرائيل بالسلاح بأنه جاء ردًا على تزويد الاتحاد السوفيتي مصر وسوريا بالسلاح، وأنه لا يرضيه ترك الشيوعيين السوفيت ينتصرون ويهيمنون على المنطقة.
ولم يقبل الملك فيصل تلك الحجج التي ساقها الوزير كيسنجر، كما لم يقبل مواصلة الرئيس نيكسون دعم سياسة وزيره المتحيزة، بينما هو منشغل باستقالة نائبه إسبيرو أجنيو، ثم بفضيحة ووترجيت. واصل كيسنجر مماطلاته لتعطيل وقف إطلاق النار، الذي طالب به السوفيت بالمثل، حتى تسترد إسرائيل الأراضي التي حررتها القوات المصرية والسورية في بداية الحرب!
وبعد أن تم وقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية ثم السورية، عاد ضخ البترول السعودي والعربي إلى أمريكا وأوروبا في مارس/آذار 1974. لكن لم تمر خمسة أشهر حتى استقال نيكسون من الرئاسة في أغسطس/آب من نفس العام بسبب تورطه في تجسس حملته الانتخابية على الحزب الديمقراطي المنافس بمقره في مبنى ووترجيت.
ولم يمر عام على إعادة ضخ البترول حتى اغتيل الملك فيصل في شهر مارس من عام 1975 برصاص الشاب فيصل، ابن أخيه مساعد بن عبد العزيز. ورغم أن الدافع الواضح للقاتل كان الثأر لقتل أخيه الأكبر المنشق سياسيًا، خالد بن مساعد، بيد قوات الأمن السعودية، إلا أن نظريات المؤامرة مازالت تتهم أمريكا بالانتقام من قرار حليفها الملك فيصل قطع البترول عنها. فالقاتل، الأمير الشاب السعودي، كان يدرس ويقيم بالولايات المتحدة لعدة سنوات وله صديقة أمريكية وقت الحادث!
لكن إعادة ضخ البترول بعد قطعه عن الغرب، لم يُعِد الأمور إلى ما كانت عليه من حيث ارتفاع قيمة البترول كسلعة ليست فقط اقتصادية بل والأهم سياسية واستراتيجية. فالبرميل الذي كان يُباع قبل الحظر بثلاثة دولارات تضاعف ثمنه أربع مرات، ليصبح 12 دولارًا للبرميل.
كما أدرك مستهلكو البترول في الغرب خطورة اعتمادهم الحيوي على هذا النوع من الوقود للحصول على الطاقة. ومن هنا بدأ البحث عن البدائل، سواء كانت الطاقة الشمسية أو النووية، أو التنقيب في أمريكا عن البترول مهما زادت كُلفة استخراجه، حتى كادت الولايات المتحدة تصل لشبه اكتفاء ذاتي من إنتاجها البترولي. ولكن جشع شركاتها فتح الباب للمضاربة على الأسعار بمجرد انخفاض المعروض من البترول عالميًا، كما تراجع التنقيب عن البترول الأمريكي بدوافع الحفاظ على البيئة.
هل يمكن معاقبة ابن سلمان؟
قد تكون مفارقة، في الذكرى التاسعة والأربعين لقرار السعودية قطع البترول عن أمريكا بدءًا بتخفيضه وقت حرب أكتوبر، أن تتزعم السعودية هذا الشهر التكتل الموسع لمنظمة الدول المصدرة للبترول ( أوبك+)، بالتنسيق مع حليفتها روسيا، لتخفيض إنتاج هذه الدول بنحو مليوني برميل شهريًا في أجواء حرب أخرى، هي الحرب الروسية على أوكرانيا.
وهذا بينما تعاني أوروبا وأمريكا، بل والعالم، من تضخم مالي نتيجة زيادة أسعار البترول. وهي أزمة بدأت بمقاطعة روسيا وفرض عقوبات عليها لغزو أوكرانيا.
لكن شتان الفارق بين الحدثين!
التحالف السعودي - الإماراتي لقطع البترول عن أمريكا في حرب أكتوبر كان موجهًا ضد أمريكا، بغض النظر عن رئيسها أو حزب الرئيس ذي الأغلبية في الكونجرس. كان الهدف تغيير التحيز الأمريكي لصالح إسرائيل. أما هذه المرة، فالسعودية في تحالف مع الإمارات، المتحالفة سياسيًا واقتصاديًا مع إسرائيل، لمعاقبة الحزب الديمقراطي بجناحه التقدمي الذي لم يعد مناصرًا لإسرائيل، عشية انتخابات الكونجرس.
وكذلك لمعاقبة الرئيس الديمقراطي بايدن، الذي رغم تأكيده أنه "صهيوني" الهوى لكنه لا يُقارن بسلفه الجمهوري دونالد ترامب، الذي تفاخر بحب ودعم المستبدين العرب، وترك لصهره كوشنر وضع سياسة الشرق الأوسط على هوى إسرائيل دون أي تحفظات.
هل يمكن لإدارة بايدن معاقبة ابن سلمان وتحالف أوبك+؟
يُمكن، ولكن لأن المعركة سياسية حزبية، وليست قومية ضد أمريكا، فقد تكون العقوبات محددة وفردية وليست عامة.
هناك صعوبة في تمرير التشريع الذي كان مقترحًا في الكونجرس منذ مايو/ أيار الماضي بمعاقبة كل أعضاء أوبك باعتبار أنَّ دولها تمارس عمليات احتكار لسلعة، وتستغلها عالميًا، مما يتوجب تطبيق عقوبات على تكتلها الاقتصادي.
فأعضاء الحزب الجمهوري المنتفعون سياسيًا من سخط الناخبين على إدارة بايدن الديمقراطية بسبب الغلاء والتضخم لن يقفوا مع النواب الديمقراطيين لتمرير قانون ضد احتكار أوبك. كما أن جماعات مصالح الشركات البترولية الأمريكية لن تؤيد ذلك التوجه.
ورغم أن ثلاثة أرباع السلاح السعودي أمريكي، أي أن عدم تزويد السعودية بالسلاح والذخيرة وقطع الغيار سيكون مدمرًا، إلا أنه عقاب أضخم بكثير من مناوشات مرحلية لشهر أو عدة أشهر. وهو يمثل تحديًا لإدارة وحزب ضد آخر، في وقت تمثل فيه إيران خطرًا أهم، خصوصًا بالنسبة لإسرائيل، التي لن تسمح بإضعاف السعودية أو الإمارات في تلك المواجهة الإقليمية.
ولعل العقبة الأصعب أمام إدارة بايدن، بجانب رفض البنتاجون لهذا العقاب، هي قوة وتأثير لوبي شركات السلاح الأمريكية التي لن تضحي بمبيعاتها للسعودية التي بلغت في عام واحد 47 مليار دولار.
تبقى لإدارة بايدن إذن معاقبة ولي العهد السعودي، لا المملكة، بعقوبات فردية لجعله شخصًا منبوذًا، كما كان يتوعد بايدن في حملته الانتخابية، واهتز موقفه بعد زيارته الأخيرة إلى جدة. فقد رفعت خديجة جنكيز، خطيبة الصحفي السعودي المُغتال جمال خاشقجي، قضية في أمريكا ضد ولي العهد السعودي باعتباره المسؤول عن إصدار تعليماته بقتل خاشقجي، الذي كان مقيمًا في الولايات المتحدة.
ولأن المحاكم الأمريكية لا يمكنها مقاضاة رؤساء دول لحصانتهم في منصبهم، أجلت الإدارة الأمريكية ردها على المحكمة بتقرير ما إذا كان محمد بن سلمان يُعامل كرئيس دولة، بما أنه الحاكم الفعلي لبلده. ومن جانبه، قرر ولي العهد أن يتولى منصب رئيس الوزراء بدل والده، للاحتماء بالمنصب. لكن هذه المناورة قد لا تكفي لو أعطت الإدارة الأمريكية للمحاكم قرارها بأن الملك سلمان هو الوحيد صاحب السيادة، ولو أنها لم تفعل ذلك في وقت سابق.
من المبكر حسم نتيجة المواجهة القائمة بين بايدن وابن سلمان باستخدام سلاح البترول لهزيمة الديمقراطيين، لكن لو فشل التحالف السعودي الإماراتي في تأليب الناخب الأمريكي على بايدن والديمقراطيين لإعادة ترامب والجمهوريين للحكم في أمريكا، فإن احتمالات انتقام الدولة الأمريكية العميقة من ابن سلمان لوقف طموحاته السياسية والإمبراطورية قد تكون باهظة الثمن.
وقد يزيد من فداحة الثمن، أن خصوم ولي العهد في العائلة المالكة أصبحوا أكثر وأقوى بكثير من مجرد شاب واحد مختل فيها، كالأمير فيصل بن مساعد، قاتل عمه الملك فيصل، رحمه الله.