بتهمة نشر أخبار كاذبة وإفشاء أسرار عسكرية عن طريق الخطأ، حكمت محكمة عسكرية مصرية في عام 2019 بالسجن خمس سنوات على ناشر كتب مصري، لا يزال قابعًا في زنزانته وخسر كل دعاوى الاستئناف، لأنّه نشر طبعةً مصريةً من كتاب مترجم ومنشور في لبنان بالعربية للكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف، بعنوان "الملاك: الذي أنقذ إسرائيل".
نشر المؤلف كتابه بالعبرية في إسرائيل قبل عشر سنوات من ترجمته للعربية، دون أن يقاضيه أو يحبسه أحد، رغم أنه أفشى أحد أهم أسرار إسرائيل في حرب أكتوبر/ تشرين اﻷول 1973، وهو اسم "العميل" المصري أو "المصدر رفيع المستوى" الذي كان يمد المخابرات الإسرائيلية بأدق المعلومات عن تحركات الجيش المصري ومشترياته من الأسلحة، وخطط الاستعداد للحرب، كذلك خطط دول عربية أخرى مثل ليبيا لدعم مليشيات فلسطينية لإسقاط طائرة إسرائيلية وغير ذلك من أسرار.
لم يكن أحد يعرف هوية "المصدر رفيع المستوى" سوى ثلاثة مسؤولين عسكريين في إسرائيل إلى جانب رئيسة الوزراء جولدا مائير. حتى الحليف الأمريكي بمخابراته لم يكن يعرف في وثائقه التي رُفعت عنها السرية، سوى أنه "مصدر عالي المستوى" من الجانب العربي.
بالطبع، أغلبنا يعرف الآن أن المقصود بذلك "الملاك" هو أشرف مروان، زوج منى جمال عبد الناصر، الذي يقول الإسرائيليون إنه حاول قُبيَل وفاة حماه الاتصال بالسفارة الإسرائيلية وهو في لندن، ثم عاود الاتصال وبدأ التعاون بعد أن عينه أنور السادات سكرتيره للمعلومات، لدور مروان في الوشاية بخصوم الرئيس من أنصار ناصر، الذين سمَّاهم السادات "مراكز القوى".
شارك مروان في مهمة التخلص من أولئك، وحبَسَهم قائد الحرس الجمهوري آنذاك الليثي ناصف، الذي قُتل لاحقًا بإلقائه من بلكونة في الطابق العاشر بمبنى سكني في لندن، أُلقيت من بلكونة شقة أخرى فيه الممثلة سعاد حسني، بينما أُلقي مروان بين الحادثين في عام 2007 من بلكونة مبنىً ثانٍ في لندن بالمثل! طبعًا، ممكنٌ القول بانتحار الثلاثة بالبصمة ذاتها من تلقاء أنفسهم.
الناشر المصري المسجون لمجرد طبع الترجمة للكتاب في مصر، اسمه خالد لطفي، وهو مؤسس مكتبة ودار نشر "تنمية"، ويُفترض أن يبقى في السجن حتى 2024 إن لم يُعفَ عنه أو يتم تدويره وحبسه في قضية جديدة. وبينما سحب الأمن كل النسخ المعروضة للكتاب في المكتبات المصرية وتخلص منها، ما زالت شبكة نتفليكس المتاحة في مصر تعرض فيلم "الملاك" الذي يقدم مادة الكاتب الإسرائيلي نفسها لكن على نحو أكثر تشويقًا!
كل الوثائق حتى الأمريكية التي رُفعت عنها السرية لفترة حرب أكتوبر، وبعضها يكشف تواطؤ هنري كيسنجر لصالح الإسرائيليين، تؤكد أن "المصدر عالي المستوى" من الجانب المصري كان من بين من حذروا إسرائيل قبل الحرب بيوم واحد، من أن المصريين والسوريين سيشنون حربًا بريةً وجويةً يوم 6 أكتوبر، الأمر الذي دفع جولدا مائير إلى استدعاء مئة ألف من الاحتياطي الإسرائيلي، وإن تأخرت تحركاتهم بسبب عطلة عيد الغفران. كما أبلغهم بأن السادات لا ينوي تطوير الهجوم داخل سيناء مما جعلهم يركزون حشودهم على الجبهة السورية ويصدون بسهولة قواتها.
طبعًا تتحدث الوثائق عن مؤشرات أخرى كتحذير الملك حسين لمائير قبل أسبوع من الحرب بالاستعدادات السورية لشن هجوم، كذلك سحب الاتحاد السوفيتي عائلات خبرائه ومواطنيه من سوريا ومصر قبيل الحرب.
وبغض النظر عن كل تلك المعلومات المتاحة لإسرائيل وإن بعد فوات الأوان، فإن المواطن المصري بعد أن شنت بلاده الحرب وعبرت قواتها القناة وبدأت في اختراق خط بارليف الترابي، لم يحصل على معلومات حقيقية من إعلام بلده وقواته المسلحة في البيانات الأربع الأولى وعلى مدى ساعتين من بدء القتال ومعرفة العالم كله بما يحدث. وجاء للمواطن البيان الأول من الجيش في الساعة الثانية وعشر دقائق بعد ظهر السبت 6 أكتوبر "مموهًا" كما يبدو:
"بسم الله الرحمن الرحيم
قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حاليًا بالتصدي للقوات المغيرة."
وتتابعت البيانات الأربعة لا تحمل أخبارًا حقيقية للمواطن، وجميعها تصلح غطاءً لو وقعت هزيمة، حتى جاء البيان رقم 5 الصحيح بعد ساعتين ليصبح هو الذي يؤرخ به لبيانات حرب اكتوبر:
"نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت على نقط العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة…."
وتواصلت البيانات التي تشبه بيانات 5 يونيو 1967 حتى بدأ الاعتراف بالعبور المضاد ولكن بإدعاء أنه "ثغرة" وليس فاجعة
لم تمر سوى عشرة أيام حتى عاد إخفاء الحقيقة في البيانات العسكرية عن المواطن المصري بشأن مسار المعارك، فبينما الإعلام الإسرائيلي والأمريكي والغربي ينقل يوم 16 أكتوبر أنباءً وصورًا لعبور الدبابات الإسرائيلية بقيادة إرييل شارون قناة السويس إلى الضفة الغربية عند الإسماعيلية وبدء اختراق وحصار الجيش الثالث، جاء البيان العسكري المصري رقم 42 ليقول دون إشارة للاختراق الإسرائيلي:
"وفي الساعات الأولى من صباح اليوم حاول تشكيل بحري معادي الاقتراب من شواطئنا في منطقة شمال الدلتا فتصدت له وحداتنا البحرية وتمكنت بمعاونة القوات الجوية من تدمير 4 زوارق معادية وفر باقي التشكيل.
وفي القطاع الأوسط لسيناء اكتشفت قواتنا ليلة أمس قوة مدرعة للعدو من 21 دبابة متقدمة نحو مواقعنا ففاجأتها قواتنا البرية وحاصرتها ودمرتها بالكامل".
وتواصلت البيانات التي تشبه بيانات 5 يونيو/ حزيران 1967 حتى بدأ الاعتراف بالعبور المضاد لكن بإدعاء أنه "ثغرة" وليس فاجعة. فبعد خمسة بيانات لا تبلغ المواطن الحقيقة التي نقلها العالم بالصوت والصورة عن إسرائيل، وبعد أيام من التعتيم، جاء البيان رقم 48 الصادر يوم 19 أكتوبر لينقل جزءًا من الحقيقة:
"وتواصل قواتنا حصارها حول القوات المعادية التي تتسلل ليلًا لشل فاعليتها وتحبط هدفها وقد قامت قواتنا بتدمير أجزاء منها حول منطقة الدفرسوار تمهيدًا لتصفيتها".
وتواصلت البيانات المصرية تتحدث عن "ثغرة" الدفرسوار حتى بعد أن انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر، جاء البيان رقم 58 يوم 24 أكتوبر مؤكدًا أن العدو الإسرائيلي لم "يكتسب أي جزء سوى ثغرة في منطقة الدفرسوار وهي المنطقة التي تمكنت أجزاء من قوات العدو التسرب منها والانتشار في بعض المناطق غرب القناة".
ثم يعود البيان للاعتراف بما قالته إسرائيل قبل ثلاثة أيام عن حجم الاختراق شرق القناة، فيقول "لقد أعلنت إسرائيل في بيانها الصادر يوم 21/ 10/ 1973 أن قواتها انتشرت في مساحة 475 ميلًا مربعًا غرب القناة أي حوالي 24 ميلًا طولاً × 20 ميلاً عرضًا ولو أن تلك المساحة مبالغ فيها غير واقعية، وتتواجد قوات لنا متداخلة بين قوات العدو..".
خلاصة القول، إننا بعد 49 سنة من حرب أكتوبر وانتصاراتها الفريدة، لم نسمح لأحد بأن يراجع بياناتنا أو يكشف ما نعتبره سرًا، رغم أن العالم حولنا لم يُبقِ سرًا، حتى صور الحرب لم نرَ منها إلا النذر البسيط الذي سمح الرقيب العسكري بوضعه في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي".
أما محاكمُنا فلا زالت تسجن ناشرًا لم يفعل شيئًا سوى أنه نشر كتابًا معروضًا في كل العالم وعبر شاشاته، سواء كان مضمونه دعائيًا كاذبًا أو حقيقيًا.
فهل جريمة الناشر المصري أنه جعل مواطنه المصري ليس "آخر من يعلم"؟!