في الجزء الثاني من الموسم السادس والأخير من مسلسل The Crown الذي أنتجته نتفليكس، يعيدك رسم شخصية الملياردير المصري محمد الفايد بشكلٍ سلبيٍّ، كرجل تكرهه العائلة المالكة البريطانية التي ترفض حتى الموت محاولات المهاجر المصري "متواضع النشأة" الاقتراب ونيل الاعتراف ولو عن طريق ابنه، إلى الموسم الثالث، حيث كان جمال عبد الناصر يتمرد على سادة بلده.
قُدِّم عبد الناصر على هيئة الشخص الذي يبالغ في الاعتزاز بنفسه وبلده المُحتل؛ فيثير حفيظة وينستون تشرشل، ويفشل أنتوني إيدن في بناء علاقة ودية معه، حتى يؤمم شركة قناة السويس ويفتح الباب لتدخل عسكري بريطاني فرنسي إسرائيلي ضد بلده، أنقذه منه تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
مشكلة المادة الدرامية التاريخية التي يقدمها المسلسل أنها ليست عملًا وثائقيًا حدثت بالفعل كلُّ وقائعه، بالرغم من دقة تفاصيل تقليده، واقترابه من نمط وتاريخ العائلة المالكة البريطانية، وروعة إنتاجه.
نائب رئيس الوزراء البريطاني أوليفر داودن، طالب نتفليكس منذ ثلاث سنوات حين كان وزيرًا للثقافة، أن تضع تنويهًا على شاشتها مع بداية حلقات المسلسل، بأن جانبًا من أحداثه خياليٌّ، مثلما كانت تحذر العائلات من عدم ملاءمته للنشء دون الثامنة عشرة.
من بين المغالطات التي مرَّت رغم محاولات التقليد والاقتراب، أنَّ محمد الفايد هو من أبلغ أحد مصوِّري الباباراتزي بقضاء ابنه عماد (دودي) إجازة استجمام مع الأميرة ديانا كـ"ثنائي" في يخته مقابل ساحل سان تروبيز على البحر المتوسط، ليتم تصويرهما خلسة في أوضاع حميمية ودون علم ديانا، لإحراج العائلة المالكة عند نشر تلك الصور.
غير أنَّ هذا المصوِّر الإيطالي ينفى أن يكون الفايد مصدر معلومته. كما ذكرت لاحقًا إحدى صديقات ديانا أنَّ الأميرة نفسها هي من طلبت تسريب المعلومة، لإزعاج صديقها السابق في لندن حسنات خان، جراح القلب هندي الأصل الذي رفضت عائلته زواجه من ديانا، ورد اعتبارها منه.
مغالطة أخرى يقدمها الموسم الجديد؛ أنَّ دودي قدَّم لديانا عرض زواج بعد العشاء الأخير في غرفتهما بفندق ريتز المملوك لعائلة الفايد، لكنها استوقفته قبل أن يكمل العرض ولم تقبله، وردَّت إليه الخاتم الذي أعجبها من قبل، ثم قررا النزول فجأة للمبيت في شقة دودي في باريس، مع سائق كان مخمورًا لأنه لم يتوقع أن ينزلا من الغرفة ليلًا، الأمر الذي انتهى بمقتل الثلاثة في حادث اصطدام السيارة المروع بأعمدة نفق مظلم، عندما كان السائق يسرع للإفلات من مطاردة مصوري الباباراتزي الذين يتعقبون ديانا بدراجاتهم النارية.
في الواقع، خاتم الخطوبة كان موجودًا في شقة دودي التي لم يصلا إليها، ما يقطع بعدم صحة هذا المشهد، الذي يتوِّج سردية درامية بناها المسلسل منذ بداية العلاقة، عن محاولات محتال مصري مشكوك في مصدر أمواله للانتساب إلى التاج البريطاني عن طريق تزويج ابنه من أم وريث التاج، الأميرة الساذجة ضحية ذلك المشبوه، الذي نراه يحث ابنه على الاقتراب من ديانا وإقامة علاقة معها، ثم يتصل بالعاملين في اليخت ليتأكد أن دودي ينام مع ديانا على السرير نفسه، ليفخر به.
وبعد وفاة ديانا، نرى ويليام يلوم والده على موتها، ويحمِّله مسؤولية ترك أمه "لهؤلاء الناس.. آل الفايد"!
من الذي يكره "هؤلاء الناس"؟
للإنصاف، فإنَّ الكاتب بيتر مورجان، مَن رسم شخصيات المسلسل، يقدِّم نفسه باعتباره حامي حمى التاج؛ سواء من الأجانب المتطاولين مثل عبد الناصر والمتسلقين مثل الفايد، أو أبناء العائلة المالكة الذين يقللون من مكانة وصولجان صاحب أو صاحبة التاج، ويحاولون التمرد على جمود مشاعره.
نجد هذه المعاملة مع الملك إدوارد الثامن عمّ الملكة إليزابيث حين يتخلى عن العرش من أجل امرأة (واليس سيمبسون)، وضد تشارلز باعتباره أيضًا شخصية مهتزة تحركها امرأة (كاميلا باركر التي أصبحت لاحقًا الملكة كاميلا)، بل ضد ديانا نفسها كفتاة طائشة مشتتة لأنها ثارت على جمود الملكة وبرود أعصاب الأمير فيليب. ينتصر كاتب التاج للملكة، ربما باعتبارها أقرب شخصية تماهى معها وقدم لها مسلسلًا كاملًا باسم الملكة قبل مسلسل The Crown.
لكن إضافة إلى التماهي الشخصي، هناك جانبان في شخصية وتنشئة بيتر مورجان نفسه، قد تفسر موقفه المعادي بالذات للشخصيات المصرية؛ الأول متعلق بأنَّ كلًّا من والديه هاجر فرارًا من الاضطهاد؛ أبوه اليهودي الألماني الذي هرب من المحرقة النازية، وأمه الكاثوليكية البولندية التي فرَّت من الاضطهاد السوفيتي، وبها يتعلق الجانب الثاني.
يحتفظ مورجان بتوجهاته وميوله السياسية والدينية بعيدًا عن النقاش مكتفيًا بأعماله الدرامية، لكنّه في مقابلة سابقة مع الجارديان، اعتبر نفسه ضمن الجيل الثاني للناجين من الاضطهاد، سواء النازي أو السوفيتي.
وعلى الرغم من أنَّ الطغاة الذين اضطهدوا عائلته كانوا من الأوروبيين البيض، فإنه يختار التعبير عن مقته واحتقاره فقط للطغاة الآخرين؛ الأوغندي عيدي أمين في فيلمه السابق آخر ملوك أسكتلندا، وعبد الناصر في The Crown.
وبينما قدَّم مورجان رجل الأعمال العصامي محمد الفايد شخصيةً مقيتةً انتهازيةً، مُركِّزًا على بيئته الشعبية منحطة الألفاظ في شوارع الإسكندرية حيث نشأ، نرى الرجال الغربيين الفاسدين أشخاصًا أذكياء أقوياء، يخوضون لعبة شطرنج أو مبارزة سيوف جديرة بالاحترام. حدث هذا في The Crown، وسبقته من قبل مسرحيته التي أصبحت فيلمًا عن اللقاءات الصحفية بين الرئيس الأمريكي المستقيل ريتشارد نيكسون والمذيع الصحفي ديفيد فروست.
أما الجانب الشخصي الآخر الخاص بوالدة مورجان، فيتعلق بشخصيتها الكاثوليكية المسيطرة في بيت والده اليهودي غير المتدين؛ رغم أنها أدخلته مدرسة كاثوليكية داخلية لم يتحملها سوى ثلاث سنوات ثم هجرها.
سنجده معجبًا بالتالي بالمرأة الحديدية مارجريت تاتشر، كرئيسة وزراء، نفس إعجابه بالملكة الحديدية إليزابيث، التي تأمر وتنهى حتى زوجها الأمير فيليب، وهي ترفض نصيحته بتجاهل جنازة ديانا، وتنزل لتكسب ود الشعب وتعزي البريطانيين في الأميرة التي كانت تمقتها.
في حوار الجارديان، أفصح الكاتب عن إحساسه بالخذلان نحو والدته بدخوله جامعة ليدز للطبقة الوسطى بدلًا من إحدى الجامعتين الشهيرتين؛ كامبريدج أو أوكسفورد لأبناء الصفوة، وهو الإحساس الذي نراه ينعكس في أحد حوارات The Crown الدرامية بين محمد ودودي الفايد، إذ يلح الأب على ابنه ألا يخذله، وأن يجعله يرفع رأسه ولو مرة بربط عائلته المهاجرة غير المعترف بها، رغم ثروتها، بالعائلة المالكة، عبر الاقتران بالأميرة ديانا المضحوك عليها من "هؤلاء الناس".
بلال فضل وإجابات تساؤلاتي
لكنَّ الكاتب والسيناريست المبدع بلال فضل، الذي لعب دورًا في كتابة سيناريو المسلسل، إذ أعاد صياغة حوارات الشخصيات المصرية المكتوبة بالإنجليزية لجعلها واقعية ومعبرة عن روح الشخصيات "دون إخلال برؤية الكاتب"، وفق ما أخبرني، فيدافع كمشاهد وناقد، بغض النظر عن دوره، عن العمل، الذي يرى أنَّه تعرَّض لانتقادات من الجانبين بالانحياز للجانب الآخر.
ويوضح أكثر بقوله إنه وجد في المسلسل "رغبة صادقة في تفهم الدوافع والأسباب للشخصيات كلها وحرصًا على تقديم صورة درامية بعيدة عن الأبيض والأسود، وهو ما لم يفرق فيه بين رسم شخصية الفايد أو تشارلز أو حتى زوج الملكة، فيليب".
ويضيف "لذلك وجد من بين المشاهدين الوطنيين أو محبي التاج الملكي من يتهمه بتشويه سمعة الأسرة المالكة والتحامل عليها، بل أغضب بعض محبي ديانا الذين يزعجهم ذكر تفاصيل حياتها الخاصة. وقرأت تعليقات لمشاهدين 'بيض' غاضبين يتهمون العمل بتبييض صورة الفايد وابنه وتقديمهما بشكل محبب ولطيف، بعكس حقيقتهما التي يراها الكارهون بشعة ومنفرة، وهذا شيء يحسب للمسلسل ولصانعه في رأيي الذي لا يخلو من الانحياز بحكم محبتي للعمل كمشاهد".
وبينما اعتبر فضل أنَّ التساؤلات الخاصة بمدى عنصرية الكاتب تتعلق به يرد عليها أو يتجاهلها، فإنه أضاف "طبعًا لو كنت رأيت العمل عنصريًا لما شاركت فيه، وأزعم أنَّ هذا هو موقف مَن أعرفهم مِن المشاركين في العمل مثل الممثل خالد عبد الله (قام بدور دودي الفايد) الذي رشحني للعمل، وسبق وأن اعتذرت عن المشاركة كمستشار درامي لعمل آخر وجدته يقدم صورة غير منصفة دراميًا للعالم العربي".
أما حين سألته عن اللغة التي استخدمها لتقديم نشأة محمد الفايد المتواضعة وهو يلعب كرة القدم في الشارع بالإسكندرية، مع "ألفاظ بذيئة"، مثل "ابن الشرموXX"، في سنوات الأربعينيات التي يُفترض أنَّ لغتها لم تكن بهذا السوء، ردَّ قائلًا "استغربت وصفك للغة الشارع السكندري في بعض المشاهد بأنها بذيئة، ووجدت في هذا الوصف استشراقية مضادة تفترض للشارع السكندري صورة طهرانية من يقدم سواها يُتهم بالعنصرية. وأعتقد أنَّ أحكام البذاءة والرقي فيما يخص لغة الفن والدراما هي أحكام أخلاقية وليست فنية، وما تراه أنت صادمًا يراه من يعرف لغة الشارع واقعيًا، ولا أظنك بعيدًا عن معرفة الشارع طبعًا لكن ربما أخذتك الحمية الوطنية على طريقة الخائفين على سمعة مصر، وهنا سأستغفر لك لا تثريب عليك".