السؤال الوارد في عنوان هذا المقال، أثارته من جديد الضجة والاحتجاجات على قرار المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية تيم ديفي، قبل أسبوع، بوقف المعلق الرياضي جاري لينيكر عن تقديم برنامجه الأسبوعي Match of the Day/مباراة اليوم، بسبب انتهاكه قواعد وإرشادات بي بي سي للعاملين بها بالحياد وعدم التعبير عن آراء سياسية خلافية مع حزب أو تيار فكري ضد آخر.
حدث ذلك بعدما غرّد لاعب مانشستر يونايتد السابق وهداف المنتخب الإنجليزي التاريخي في كأس العالم، منتقدًا بقوة سياسة الهجرة لحكومة المحافظين، عبر حسابه على تويتر الذي يتابعه أكثر من ثمانية ملايين شخص.
فقانون الهجرة الجديد يسمح بترحيل لاجئي القوارب غير الشرعيين دون تقاضٍ أو حق لجوء. وهو ما اعتبره لينيكر تشددًا مقارنة بعدد اللاجئين الذين تقبلهم الدول الأوروبية الأخرى، وأضاف "هذه سياسة قاسية بالمرة.. وموجّهة ضد الأشخاص الأكثر ضعفًا بصيغة لا تختلف عن تلك التي استخدمتها ألمانيا في الثلاثينيات".
أدت احتجاجات عدد من وزراء حكومة المحافظين والساسة الداعين لتشديد قوانين الهجرة على التغريدة إلى اتخاذ المدير العام قراره بإيقاف لينيكر مؤقتًا لحين البت في الموضوع. لكن المدير تراجع بعد حلقة واحدة، غاب فيها مقدم البرنامج وانسحب عدد من ضيوف ومعلقي الحلقة المشهورين، وكذلك بعد أن أعلن لاعبو الدوري الإنجليزي مقاطعتهم مراسلي بي بي سي.
كما احتج متابعو البرنامج باعتبارهم يدفعون ضريبة سنوية لهيئة الإذاعة البريطانية ويجب ألا يفرضَ عليهم موظفٌ المذيعَ الذي يريده. الحل المؤقت هو عودته باعتباره متعاقدًا غير متفرغ من الخارج، مع مراجعة الإذاعة لتعقيدات قواعد وإرشادات عدم التحيز للإعلاميين، خصوصًا في حساباتهم الشخصية على السوشيال ميديا.
الازدواجية في عدم الانحياز
سبق للمعلق الرياضي نفسه أن انحاز في تغريداته عام 2016 ضد التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهاجم بعد ذلك الكثير من سياسات ليز تراس حين كانت رئيسة لوزراء بريطانيا. وخصوصًا انتقادها، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، قبول الأندية الرياضية أموالًا وتبرعات من الأغنياء الروس. إذ غرّد مطالبًا حزبها الحاكم بإعادة تبرعات الروس لبعض أعضائه في حملاته الانتخابية.
وقتها كان مبرر إدارة بي بي سي لعدم محاسبة المعلق الرياضي على آرائه السياسية المتحيزة أن تحيزه ليس لفريق ولا يخص أمرًا متعلقًا بالرياضة، ولكنه في السياسة التي لا يقدم برنامجًا فيها.
هل هناك مجال للمقارنة بين ما يحدث في بلادنا، وما حدث من مذيع انتقد وزيرة داخليته بأن لغتها ضد المهاجرين أشبه بلغة النازية؟
لكن المشكلة تفاقمت بعد عام 2020 مع تولي المدير الجديد ديفي، الذي يبدي تشددًا في ضرورة عدم التعبير عن آراء شخصية متحيزة. ففي العام الماضي، وجه لينيكر عبر تويتر انتقادات قاسية لدول أخرى، عندما وصف أمريكا بأنها "من أكثر دول العالم عنصرية"، وانتقد وزير الخارجية البريطاني لمطالبته مشجعي بلده بأن يراعوا عند زيارة قطر لحضور مباريات كأس العالم أن القطريين يحظرون المثلية الجنسية. ثم استغرب قرار بي بي سي عدم نقل حفل افتتاح كأس العالم، متسائلًا عن أسباب إرسال كل هؤلاء الفنيين والأطقم.
الفارق بين الحياد والاستبداد
معضلة تطبيق الإذاعة البريطانية لقواعد عدم إعلان موظفيها انحيازاتهم، ووضع قيود على تعبيرهم عن آرائهم الخلافية حتى في حساباتهم الشخصية، حجة يستخدمها بعض مروجي الاستبداد في عالمنا العربي لتبرير مقولة: لا توجد حرية كاملة ولكل وسيلة إعلام قيودها فلا تحدثونا عن إعلام الغرب بل عن ازدواجية معاييره!
ولكن هل هناك مجال للمقارنة بين ما يحدث في بلادنا، وما حدث من مذيع انتقد وزيرة داخليته بأن لغتها ضد المهاجرين أشبه بلغة النازية، ومع ذلك تجاوب معه الملايين ولم يتمكن أحد من وقف برنامجه سوى حلقة واحدة، كما أيده كثير من زملائه الإعلاميين باعتباره معلقًا رياضيًا وليس مراسلًا سياسيًا؟
الجدل في بريطانيا لا يتعلق بإسكات الإعلاميين أو توجيههم ولكن بتطبيق قواعد من داخل المهنة ولا علاقة لها بأي السياسيين غضب من أي نقد.
لا أحد يمنع إعلاميًا من عرض واستضافة كل الآراء وفي مقدمتها من ينتقدون الحكومة ورئيسها أو الملك. وتبقى مشكلة إن كان له حق أن يكشف عن آرائه السياسية المتحيزة، وهنا يتساوى الإعلامي الذي يمجد الحكومة ويؤيدها بذلك الذي ينتقدها مؤيدًا معارضيها، فكلاهما متحيز بطريقته.
فزّاعة إسرائيل في الإعلام الغربي
خلافًا لكل آراء لينيكر السابقة التي لم يُحاسب عليها، فإن حديثه عن "ألمانيا في الثلاثينيات"، متطرقًا إلى أحد الموضوعات الحساسة في أوروبا؛ "النازية"، حتى دون نطقها أو كتابتها، كان كافيًا للوقوف ضده. فوزير الهجرة البريطاني احتج كواحد من أحفاد ضحايا الهولوكوست، معتبرًا المقارنة "غير مقبولة".
ما حدث مع لينيكر، يواجهه أي إعلامي عربي يكتب رأيه السياسي أو حتى ينقل تغريدةً أو بوست على صفحته الشخصية منتقدًا إسرائيل بلغة لا تعجب مؤيدوها، مثل الذي واجهه موظفو ومراسلو الأقسام العربية في محطات من بينها بي بي سي البريطانية أو فرانس24 الفرنسية أو دويتشه فيلله الألمانية.
القاسم المشترك هو أن أنصار إسرائيل من مواطني تلك الدول سواء بدعم خارجي أو محلي، يرصدون ما يكتبه المراسلون العرب بتلك القنوات أو الصحف ويتعقبونهم، ومهما كان رأيهم سياسيًا وليس عنصريًا أو طائفيًا، فإنهم سيعاملون كمن انتهك قواعد عدم الإفصاح عن آراء خلافية متحيزة بصفحته الشخصية.
هي لعبة يجيدها فريق واحد، بينما الفريق والجمهور العربي لا يرصد ولا يقدم شكاوى ويكتفي بشكوى حاله لأهله من ازدواجية المعايير دون المثابرة لتطبيقها لصالحه بالمثل.
أخيرًا، هذا الجدل ليس لإسكات الإعلامي أو قمع حرية الرأي، ولكن حتى لا تشعر مؤسسة عامة يمولها دافعو الضرائب أنها أو أي من موظفيها، ينحازون لوجهة نظر ولو كانت لصالح الأغلبية الحاكمة ضد رأي أقلية من المواطنين.
فكيف نُسكِت الناس أو نُرضِي حكومة بالصمت، بينما تفخر هيئة الإذاعة البريطانية بوضع تمثال أمام مبناها في لندن لأحد موظفيها السابقين أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو الكاتب والروائي جورج أورويل، عدو الفاشية والدولة الغاشمة، وعلى جداره الخلفي عبارة من روايته مزرعة الحيوان، تقول "إن كان هناك أي معنى للحرية، فهو أن تملك الحق في إخبار الناس بما لا يحبون سماعه".