مازالت مقولة المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) بأن "مشكلة هذه الأمة ليست الاستعمار بل القابلية للاستعمار" سارية علينا منذ وضع كتابه "شروط النهضة" عام 1949.
أتحدث هنا عن التبعية المادية والفكرية, والحاجات التي لم توفرها أنظمة "الاستقلال" لشعوبها المتحررة من الوجود العسكري الغربي، ولا أتحدث أو أروج لحجج نظريات المؤامرة علينا من الخارج، وكأننا ضحايا مغلوبون على أمرهم ولسنا مسؤولين عما بتنا وأصبحنا وما زلنا فيه من تخلف وتبعية!
أقمنا على وسائل التواصل الاجتماعي سرادقات العزاء والنحيب على ما مسَّنا عربيًا من قرار مسؤولي ما وراء البحار في هيئة عامة بريطانية يريدون ترشيد أموال مواطنيهم من دافعي الضرائب البريطانيين، بتقليص الإنفاق على بث إذاعات موجهة بعشر لغات إلى مواطني دول أخرى في الخارج!
شعرنا وتفاعلنا كمستمعين عرب بقرار إغلاق راديو بي بي سي عربي مع بداية العام المقبل، بعد قرابة 84 سنة من انطلاقه، بينما لم يلتفت كثيرون لوقف بث إذاعة صوت أمريكا من واشنطن عام 2002، أو قرار إغلاق خليفتها الأمريكية بالمثل راديو سوا عام 2018.
السبب هو الحاجة التي كانت تلبيها وتقدمها هيئة الإذاعة البريطانية للمواطن العربي، ولو ضعفت سبل توصيلها إذاعيًا مؤخرًا، بينما مازال الإعلام العربي، بأنظمته وجمهورياته وإماراته وملكياته المستقلة بميزانياتهم الإعلامية الضخمة، عاجزًا عن تقديم هذه المادة الإخبارية والثقافية بنفس الدرجة من المهنية والحيادية!
تلك هي معضلة القابلية للاستعمار والتبعية، لا الوجود الاستعماري نفسه. أن تظلَّ عاجزًا عن تقديم خدمة تحترم مواطنيك بدلًا من دعاية سياسية وإعلانات تجارية لخدمة الملاك سياسيًا واقتصاديًا.
بعد كل عقود الاستقلال الوطني، ما زال إعلام الصوت والرأي الواحد هو الذي يجعل المواطن العربي من المحيط إلى الخليج في تبعية للخارج، يبحث عن إعلام المستعمر القديم الناطق بالعربية ليبلغه عن الأخبار التي تقع في وطنه ويحجبها عنه حاكمه ابن وطنه وجلدته، بمنطق الوصاية على غير الراشدين والتي قد لا يطبقها الحاكم بنفس الحزم، الذي يتعامل به الغرب، مع المواد الإباحية المصنفة للكبار فقط!
جانب من مشكلة انخفاض نسبة المستمعين لراديو بي بي سي عربي يعود إلى القيود السياسية المفروضة من الدول العربية التي تتحكم، كحقها السيادي، في رخص البث الإذاعي عبر موجات إف إم (FM) frequency modulation ذات الجودة الصوتية الأعلى.
ولكنها بالتالي ترددات محدودة التركيز الجغرافي، مقارنة بالموجات المتوسطة (AM) amplitude modulation ذات المدى الأبعد نسبيًا، بحيث يمكنك أن ترسل من طنجة بأقصى المغرب بثًا إذاعيًا لكل شمال إفريقيا. لم نعد بالطبع نتحدث عن الموجات القصيرة (SW) short wave التي اندثرت. لكن رفاهية المستمع الحالية في تفضيل بث الإف إم، خصوصًا إذا كانت المادة موسيقية.
حتى الدول العربية القليلة التي أعطت للإذاعة البريطانية ترخيصًا لهذا البث عبر FM لعلاقاتها الوثيقة بالتاج البريطاني مثل الأردن، كان على القناة أن تراعي في موادها التحريرية حساسيات المضيف السياسية!
لكن بجانب الحرمان السياسي لدى المتلقي العربي لمادة إعلامية مستقلة، وهو الأمر الذي أجبره على تبعية شبه ثقافية أو فكرية، ولا أقول سياسية، للخارج، فهناك مشكلة العزوف عن القراءة والاستماع لدى مواطننا العربي الذي أصبح يفضل الفُرجة، أي المرئي عن المسموع والمقروء حتى على النت!
ازدادت الحاجة لمواد هيئة "أجنبية" تتحدث بحياد نسبي للجمهور العربي العريض، الذي لا يتمكن من مطالعة الأخبار بلغات أجنبية، حتى يعرف ماذا تخفي عنه حكومات ما بعد الاستقلال
في منتصف أغسطس/ آب 2009 أعلن مدير المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة عن إغلاق مكتبة المجلس العريق الذي كان يحتفل آنذاك بمرور 75 سنة على إنشائه، وبعد أفول عصره الذهبي.
أوضح المدير البريطاني بول سميث في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه خبر الإغلاق أن القرار لم يأت بدافع تخفيض النفقات بل لترشيدها، لأن عدد رواد المكتبة انخفض في السنوات الأخيرة بشكل لم يعد يتناسب مع عدد الموظفين والإمكانات المالية الموضوعة لإبقائها مفتوحة.
ومثلما يبرر الآن مسؤولو الإذاعة البريطانية قرار إغلاق بث الراديو والتوجه الى تقديم هذه المادة الصوتية عبر الإنترنت، قال مدير المجلس البريطاني قبل 13 عامًا إنهم سيلجأون للإنترنت للتعويض عن إغلاق المكتبة.
لكنه أشار إلى سبب آخر، هو وجود بدائل للقارئ المصري عن المجلس البريطاني مثل "ساقية الصاوي" التي قدمت أنواعًا أخرى من النشاط الثقافي أكثر جاذبية للمترددين السابقين على مكتبة المجلس البريطاني!
العزوف عن القراءة إلى غيرها من أنشطة ثقافية ترفيهية، تواكبها بالمثل معضلة العزوف العربي، خصوصًا المصري بكمه السكاني المؤثر، عن الاستماع للراديو، بل وحتى مواد الإنترنت المسموعة منه مثل البودكاست، إلى شاشة التليفزيون. وحتى حين عزف الجمهور العربي عن شاشات الفضائيات فضَّل يوتيوب للمشاهدة على الإنترنت وليس مجرد الاستماع الصوتي، سواء لكتاب مقروء أو بودكاست مسموع!
بالتالي، لن يتأثر الجمهور العربي كثيرًا بإغلاق راديو بي بي سي عربي وانتقال مادته الإذاعية إلى الإنترنت،
لكنه مهتم أكثر كمشاهد للمادة الإخبارية المرئية لهيئة الإذاعة البريطانية، المحروم من مثيلاتها في الاستقلالية التحريرية سواء كانت على شاشة التليفزيون المستمر عندهم أو يوتيوب والإنترنت.
ازدادت الحاجة لمواد هيئة "أجنبية" تتحدث بحياد نسبي للجمهور العربي العريض، الذي لا يتمكن من مطالعة الأخبار بلغات أجنبية، حتى يعرف ماذا تفعل أو تخفي عنه حكومات ما بعد الاستقلال بتليفزيوناتها رافعةَ الأعلام والأناشيد الوطنية، خصوصًا بعد أن تصالحت أنظمتها فيما بينها، وحجبت بالتالي كل منها عن فضائياتها نشر الأخبار التي كانت تكدر صفو العلاقات الودية للأشقاء المتحدين ضد المؤمرات الخارجية للاستعمار الغربي وأعوانه!
أخيرًا، أحذركم من أن شهادتي الإيجابية التالية لصالح هيئة الإذاعة البريطانية مجروحة، لأنني عملت مذيعًا بها في الراديو والتليفزيون. كنت مراسلًا لإذاعتها من واشنطن لعامين كاملين (1998-2000)، كما أنشأت وقدمت من القاهرة لعام واحد (2014-2015) برنامجها التليفزيوني "بتوقيت مصر" المستمر حتى الآن.
استمتعت في الإذاعة أكثر من التليفزيون، وربما يكون من أسباب ذلك، إلى جانب انحيازي للراديو، عدم وجود تحديات صعبة وطاردة في استقلالية السياسة التحريرية حين تعمل من واشنطن، سواء في التسعينيات أو الألفية أو غيرها، مقارنة بالقاهرة، خصوصًا بعد 2014.
شهادتي، وخلاصة القول، إن الإنجاز الكبير والميراث الذي خلّد اسم بي بي سي على مدى أكثر من ثمانية عقود لدى شعوب كافحت من أجل الاستقلال الوطني ضد الاستعمار البريطاني والأوروبي، هو شهادة في حد ذاتها للإنسان العربي على قدرة أبنائه وبناته، باختلاف الأجيال، وما يمكنهم تحقيقه في العمل الإذاعي أو غيره، واحترامهم المهنية وتفوقهم في الابتكار والإبداع.. فقط، حين تتوفر لهم الظروف السليمة والبيئة الصحية والقواعد المنصفة التي توفرت في مجتمعات "الاستعمار" التي تحترم القانون (المحلي) وتتوخى المصلحة العليا، وإن كان لأوطانها ومواطنيها فحسب.
حين تتحقق لدينا هذه المنظومة والبيئة السياسية يمكن أن يتحقق لشعوبنا الاستقلال الفعلي، وتننهي تبعيتها وقابليتها للاستعمار.