لفت انتباهي خلال الأسبوع الماضي محاولتين جريئتين لإعلاميتين مجتهدتين، تصرفتا أمام العالم العربي بشكل يظهر استقلاليتهما الإعلامية عمن يملكون ويديرون منظومتي الإعلام والسياسة المنتمية كل منهما لها: الأولى تنتمي لمنظومة الإعلام السوري والثانية لمنظومة الإعلام المصري.
الأولى كانت لرُبى الحجلي، مذيعة تليفزيون الإخبارية السورية، التي وجهت سؤالًا جريئًا وانتقاديًا للأمين العام للجامعة العربية في المؤتمر الصحفي لاختتام قمة جدة يوم الجمعة الماضي. والثانية كانت لقصواء الخلالي، مذيعة قناة CBC المملوكة للأمن القومي المصري، حين كتبت على حسابها في فيسبوك تعتذر عن استضافة المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي بحلقة يوم الأحد الماضي بسبب رفض شركة المتحدة المالكة للقناة استضافته!
بدا تصرف المذيعتين، ولو افترضنا عدم القصد، نوعًا من اللياقة الفائقة في فن المشي على أسلاك رفيعة مدببة في سقف قفص سيرك تملؤه الوحوش. وتحت أضواء كاشفة بدا سؤال رُبى في جدة إحراجًا للرئيس الأسد بانتقاد مضيفيه، واعتذار قصواء في القاهرة إحراجًا لمسؤولين وافقوا على دعوة المعارض للحوار على الشاشة ثم تراجعوا عن الدعوة.
هل يمكن أن يتم ذلك عفوًا، ودون ترتيب مسبق، كنوع من ممارسة حرية الصحافة في بلدين تصنفهما منظمة مراسلون بلا حدود في قاع أسوأ 14 دولة في العالم من حيث غياب حرية الصحافة؟ فوفقًا لمؤشر عام 2023 ترتيب مصر 166 وترتيب سوريا 175 من مجموع 180 بلدًا في العالم!
الحجلي وسؤال أبو الغيط
السؤال الطويل الذي وجهته مذيعة الإخبارية السورية قاطعها فيه باحتداد السيد أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة العربية، حين أشارت لانفضاض الشعوب العربية عن متابعة مؤتمرات القمم العربية.
وبينما اختلف معها أبو الغيط بشدة واعتبرها ذات رؤية مختلفة ومغايرة، فصفق تأييدًا للأمين العام الصحفيون المصريون وغيرهم من مؤيديه، ثم عندما أعطى أبو الغيط فرصة السؤال للمذيع أحمد موسى، وبّخ الأخير الصحفية على تجرؤها بسؤالها على "قيمة ومقال" الأمين العام!
شمت معارضو نظام الأسد بمنصات السوشيال ميديا في المذيعة السورية، القريبة من نظام الأسد والتي سبق وأجرت العديد من المقابلات مع الرئيس بشار، واعتبروها من شبيحة/بلطجية الإعلام السوري. بل سبق أن طُردت السورية رُبى الحجلي من مقر الأمم المتحدة في جنيف حين تطاولت بالسباب على بعض معارضي النظام ممن حضروا لتقديم شهادات ضد انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
لكن رغم ولائها الشديد للأسد، أوقفها النظام نفسه عن التليفزيون السوري في أكتوبر/تشرين أول من عام 2021 حين تجرأت بسؤال أحد المسؤولين ببرنامجها عن مظاهر الفساد على الحدود ونقاط التفتيش ونهب واستغلال المواطنين. وبعد يومين من إعلان أنها لن تظهر ثانية سرعان ما صدرت الأوامر بإعادتها للشاشة السورية؛ بينما تم خلال نفس الفترة اعتقال العديد من الصحفيين لحديثهم عن الفساد في سوريا، ولم ير كثيرون منهم الضوء حتى الآن!
بالتالي، لايمكن تصنيف الحجلي ضمن الأبواق التي لا تغامر بالخروج عن النص، لكنها مغامرة من يعرف بذكائه أن ولاءه كفيل بحماية إخراج رأسه بعض الشئ ليبرز من ظلال صفوف الموالين المتأخرين في الوراء، بما يكفي لمكافأته على التميز في الجرأة المحسوبة!
الخلالي والاعتذار لصباحي
حين أعلنت المذيعة قصواء الخلالي عن المقابلة المنتظرة مع القيادي بالحركة المدنية والمرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، وضعت ذلك في إطار انجازات الرئيس من دعم الحوار الوطني وقبول مختلف الآراء. لكن حمدين صباحي، كان كتب ينتقد مافعله الأمن من اعتقال أقارب وأنصار النائب السابق أحمد الطنطاوي، الرئيس المستقيل لحزب الكرامة الناصري الذي أسسه صباحي، وربما خشي القائمون على القناة أنه قد يروج للطنطاوي الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة.
هنا اضطرت قصواء إلى الاعتذار عن المقابلة بعد أن أعلنت عنها، مكتفية بأن شركة المتحدة، مالكة القناة، هي التي قررت إلغاء المقابلة وأبلغته بذلك، وأضافت أن الشركة المالكة، وليس الضيف الذي دعته، أبلغتها بأنه وافق "وتقبل الاعتذار بصدر رحب"!
اعتبر البعض هذا الإعلان صراحة وجرأة من المذيعة بوضع المسؤولية على الشركة، بافتراض أن إعلاميًا مواليًا آخر يمكن أن يزايد ويزعم أن حسه الوطني المشتعل جعله يغير رأيه بسبب انتقاد صباحي لأجهزة الدولة المستيقظة ضد المؤامرات، أو يزعم اعتذار الضيف نفسه! وكلا الكذبتان غير مأمونة العواقب لو رد حمدين بالنفي أو قرر المسؤول الأمني أن المطلوب من دور صباحي لم ينته بعد، فكيف نحرق ورقته بالانقلاب عليه والتشكيك فيه.
بالتالي، لم يكن هناك خيار أفضل للمذيعة الموالية من إبلاغ الرسالة، وكأن الصحفي مجرد عبد المأمور، وبمنطق اربط الحمار أو الحوار مطرح ما بده صاحبه!
المرونة والذكاء: سره باتع
تعود بي الذاكرة إلى سبتمبر/أيلول 2012 وحلقة في برنامجي بتوقيت القاهرة في قناة دريم تناولت فيها سماح التليفزيون المصري لأول مرة بظهور مذيعة أخبار محجبة على الشاشة، بقرار في عهد حكومة الإخوان المسلمين من وزير الإعلام آنذاك صلاح عبد المقصود.
استضفت وقتها على الهاتف الأستاذة سوزان حسن بوصفها رئيسة سابقة للتليفزيون المصري. وأوضحت أن الاختيار يجب أن يكون متاحًا للمذيعة في الحجاب أو غيره، واعتبرت أن القرار السابق بمنع أي محجبة كان "قرارًا سياسيًا ظالمًا".
واستضفت كذلك مراسلتين من قطاع الأخبار: واحدة محجبة وبدأت تظهر كذلك على الشاشة بعد القرار، نرمين خليل، وزميلة لها في التليفزيون المصري كانت غير محجبة، لكنها أحبت أن تشارك باعتبار أنها كانت محجبة من قبل، وخلعت الحجاب حين حال دون ظهورها على الشاشة. اعتقدت أن فريق الإعداد الذي رشحها اختاروها لتقديم وجهة النظر الأخرى، لكن المذيعة الشابة غير المحجبة كانت مؤيدة بالمثل لقرار وزير الإعلام!
كانت الضيفة وقتها هي المذيعة قصواء الخلالي، التي أقتبس مما قالته وقتها في الحلقة:
"حكاية إن المذيعة ترتدي حجابًا هو فرض شرعي لكن أن التليفزيون يمنعها ويتحكم فى مظهرها هذا هو الذي يعتبر تعديًا على الحريات"، وأردفت قائلة، "تقدمت بطلب لأرتدي الحجاب وناقشوني في الأمر وتحدثت مع رئيس قطاع الأخبار وقال لي المهم يكون لائق".
لكن يبدو أن المذيعة لم تعد للحجاب، وحين اشتدت الحملة والمظاهرات ضد حكم الأخوان، كتبت على صفحتها على فيسبوك رسالة لوزير الإعلام تطالبه بتطهير الإعلام والرقي بمستوى التليفزيون، الأمر الذي أدى إلى وقفها عن العمل!
وكانت خلال العامين الأولين من ثورة يناير من أنصار الثورة، مؤكدة على أنها مدينة لما حققته الثورة حتى لها شخصيًا، حين قالت في برنامجي وقتها، وكما نقل عنها اليوم السابع، "علمت أن سبب عملي في التليفزيون المصري يعتبر من إنجازات الثورة، لأنني من محافظة مطروح، وكان محظورًا علينا قبل ذلك أن ندخل حتى مبنى التليفزيون".
من حق كل صحفي أو مذيع أن تزداد خبرته وتتعدل مواقفه مع الوقت، سواء كان مؤيدًا لنظام مبارك أو ثورة يناير أو مؤيدًا للرئيس السيسي. لكن إعجابي هنا بدرجة المرونة والذكاء في قدرة جيل جديد من شبابنا الإعلامي في معرفة جدوى ودقة زاوية الاتفاق والاختلاف، بحيث لا يكون رقمًا عابرًا في طابور طويل من الموالين.
أما المعارضون أو المتمسكون بمهنتهم واحترام الكلمة دون التحجج بكونهم "عبد المأمور" الذي ينقل أوامر المنح والمنع، فلا مكان لهم في منظومتنا الإعلامية تحت الشمس، وإن كان من حسن حظ الكثيرين منهم أنهم لم يصبحوا أيضًا وراء الشمس!