ناقشت سابقًا كيف تمكنت سياسات الطغيان من تحويل قطاع كبير من السكان إلى كينونات تتلبسها باستمرار "هواجس قيامية"، تجعلهم ينتظرون طوال الوقت الأسوأ وهم مستعدون لقبوله والتكيف معه، لأن هناك دائمًا ما هو أسوأ منه.
وفى هذا المقال سأتطرق إلى بعض جوانب السياسات التي دأبت في العشرية الماضية على تحويل المواطنين إلى أنفار مذعورة تتنظر الأسوأ المقبل، سواء كان ذلك عن رؤية متعمدة أو عن تفاعلات وليدة لأحداث وصراعات آنية.
المجاز لعبد الناصر والفانتازيا لكوريا الشمالية
منذ حوالي عشر سنوات حين قيل "يا بخت عبد الناصر بإعلامه"، لم تكن الأيام علمتنا بعد أن إعلام المرحلة الناصرية الديكتاتورية كان أكثر نضجًا ورحابة من إعلام ما بعد 2013. فهو على الأقل كان من سعة الصدر التي احتملت مخرج شاب مثل حسين كمال حين أقدم على إخراج فيلم جريء مثل شيء من الخوف.
لم تكن الفانتازيا المرتجاة هي إعلام عبد الناصر في الستينيات بل إعلام كوريا الشمالية في زمننا الحالي
في الواقع، لم يكن عبد الناصر محسودًا على إعلامه من حيث الخط والتوجه والاصطفاف، بل على زمن إعلامه الذي توافرت له إمكانية السيطرة الكاملة على تدفق المعلومات وتداولها، ومعها القدرة التامة على مراقبة كل وأي عملية اتصال وتواصل، بحيث يمكن نظريًا لأي طغيان تشكيل وعي وتصورات المواطنين في أدق تفاصيل حياتهم. في الحقيقة لم تكن الفانتازيا المرتجاة هي إعلام عبد الناصر كما كان في زمن الستينيات، بل إعلام كوريا الشمالية في زمننا الحالي.
لكن الطغيان يعلم استحالة كوريا الشمالية كإمكانية معاصرة في بلد مندمج في النظام الرأسمالي العالمي، حيث الانفتاح الفضائي والتواصل الرقمي جزء لا يتجزأ من حركة السوق وعادة طبيعية من عادات السكان لأكثر من ثلاثين عامًا. حين أراد حسني مبارك الارتداد إلى موقع كوري شمالي وقرر قطع الاتصالات في ليلة جمعة 28 يناير 2011، لم يتخيل وقتها أنه كان يقطع رأس نظامه بيديه، فسقطت دولته عمليًا مع آخر ضوء في نهار اليوم نفسه.
لذا، ولما كانت السيطرة التامة شبه مستحيلة، أوجب ذلك اتباع سياسات أكثر معاصرة وارتجالًا، تنتمي نظريًا وفكريًا إلى نفس المنطلقات الشمولية، فتم اعتماد سياسات الإغراق والإرباك والإرعاب، جنبًا إلى جنب مع سياسات القمع المادي العاري.
ليست هناك حاجة إلى التذكير بالقمع الممنهج لحرية الرأي ولكل أشكال الإعلام المستقل الذي يتضمن الحبس والاعتقال والفصل الوظيفي والتضييق على الأرزاق وتطهير المؤسسات الإعلامية من المغضوب عليهم. وهو الذي تطور مع الوقت لاعتياد توجيه تهم الانتماء لجماعات إرهابية إلى مواطنين وأفراد بمجرد نشرهم آراء معارضة على السوشيال ميديا.
وفي الأثناء، حُجبت أغلب المواقع المعارضة، بل وحتى المنصات العالمية التي تنشر بين الحين والآخر أخبارًا غير مرغوب في نشرها.
تطبيق واتساب كغيث من فيض
ما سبق من أشكال للقمع الممنهج معروف للكافة، وتم اتخاذ ضحاياه كوسيلة إيضاح وبيان على المعلم للكتلة الأكبر من السكان. لكن الأكثر تأثيرًا وإيذاء للقطاعات الأوسع من الناس كان في إخضاعهم لحملات دعاية سوداء مدروسة، أغلبها مُجهل المصدر، تأتيهم عبر الوسائل الرقمية تحديدًا.
كانت تطبيق واتساب من أول حقول التجريب الدعائية، فمع نهاية عام 2013، وبينما كانت بعض الصحف لا تزال حية، ويمكن لبعض الأصوات المختلفة أن تتسرب إلى الإعلام المرئي، كان واتساب يعج بسيول وفيوض من الأخبار الكاذبة التعبوية التي اعتمدت بالأساس على تنبيه الناس وتحذيرهم من أخطار وجودية ليس أقلها احتمالية الغزو الأجنبي لمصر، ومع الوقت تم اعتماد هذه السياسة مع باقى التطبيقات.
في هذا الوقت، كان من العادي أن يخبرك أحد أقربائك في قلق عن إحباط إنزال عسكري تركي على سيناء، أو إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات مرة أخرى. كانت تلك الأخبار في صورة روابط لمواقع مزيفة تأخذ أسماء المواقع الإخبارية المشهورة، فضلًا عن مواد لا تنتهي فى تدفقها وتكرارها عن المؤامرات الماسونية التي تحاك ضد مصر وأسماء المتورطين فيها. ولم يكن خبر أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي إلا واحدًا من الأخبار القليلة الغرائبية التي انتقلت من معامل الدعاية السوداء إلى العالم الخارجي، حتى إنها وصلت إلى الصحف ومحطات التليفزيون التى تعاملت معها بارتباك شديد.
خلافًا لأنماط شمولية أخرى، انتمت هذه النوعية من الدعاية في حالتنا إلى عالم الاختراق والتجسس في أزمنة الحرب التي تعتمدها الأجهزة الأمنية من أجل تحطيم الروح المعنوية للأعداء وشل تفكيرهم وتشكيكهم في كل وأي معلومة. والقاسم المشترك لملامح هذه الدعايات أنها انتمت في ثقلها إلى نمط البروباجاندا السوداء التي تُلقى خلف خطوط العدو. لكن الخبر السيئ كان أن حسابات عموم الشعب كانت هي خطوط العدو.
تحول الاستثناء إلى قاعدة
ربما تواطئ الكثيرون على الأمر بدعوى قيام جماعة الإخوان المسلمين في نفس الفترة بعمل نفس النوع من الدعايات السوداء بغرض السيطرة على جمهورها وتوجيههم على النحو الذي يخدم حساباتها وخططها الصراعية. والحقيقة أن إعلام جماعة الإخوان لم يدخر جهدًا في بث فيوض من الأكاذيب والأخبار التي افتقرت إلى الحد الأدنى من المعقولية، لدرجة أصابت مستهلكيها باللوثة والخبل.
ولكن نسي البعض في تواطؤهم هذا أن يد الدولة ثقيلة، وأن أثر دعاياتها واستمرارها أشد وطأة وتأثيرًا، والأهم أن هذا النمط من السيطرة والتعبئة من السهل استخدامه لاحقًا فى أغراض تتجاوز الهدف الأصلي الذي بدأت معه.
مع الوقت، تطور الأمر وأصبح سياسة ممتدة، تعتمد على إغراق الفضاء الإعلامي والرقمي بأخبار تفتقر إلى المنطق والسلامة والعقلانية، بشكل يتحقق معه هدفي الإرباك والإرعاب، اللذان سيدفعان المواطن من تلقاء نفسه إلى الكف عن محاولة معرفة الحقيقة، والاستنكاف عن فهم أي شأن عام يدور من حوله طالما لا يمس قوت يومه؛ ببساطه تدمير فكرة "الرأي العام".
أصبح الهدف تدريجيًا هو "احتكار المعلومة الصحيحة"ـ بحيث يتم تدريبك على أن تكون مستعدًا لتصديق كل شيء وعدم تصديقه في الوقت نفسه، فتكف من تلقاء نفسك عن البحث عن المعلومة الصحيحة، وتستسلم لفكرة أن المعلومة الصحيحة أصبحت أمرًا بعيد المنال، وضررها أكثر من نفعها.
أصبح البحث عن المعلومة الصحيحة مرهقًا وطويلًا، وله تكاليفه النفسية، بل ربما يكلفك حريتك نفسها. وبذلك يمكن للسلطة "الشبحية" أن تتصرف كما تشاء في السياسات والموارد العامة، ولا تعرف أنت شيئًا عن ما يدور حولك إلا عند إسدال الستار ووقوع الواقعة، لتستمر عملية السيء الذى يتولد عنه الأسوأ.
في أجواء كهذه يمكن لإنسان من نخبة هذا البلد أن يستقبل في بلادة تامة قرارات تنقل أصول وملكيات عامة إلى صناديق سيادية غير خاضعة إلى أي رقابة، بعد أن تم تدريبه على مدار عدة سنوات ألّا يسأل عن أشياء إن تُبد له تسوؤه، فقد حل الطغيان البشري محل إرادة الله وأوامره.
"في عالم غير مفهوم، دائم التغير، تصل الجماهير إلى النقطة التي تصدق فيها كل شيء ولا تصدق شيء في الوقت نفسه. إذ كل شيء ممكن ولا شيء حقيقي، وتكشف البروباجاندا أن الناس على استعداد لتصديق أسوأ الأمور في أي وقت مهما بدت هذه الأمور مثيرة للسخرية. ولن يعارض الناس الذين يتلقون الدعاية في أن يخدعوا، لأنهم يعتبرون كل تصريح بمثابة كذبة على أية حال.
لقد أسس زعماء الأنظمة الشمولية دعاياتهم على افتراض سيكولوجي صحيح، ألا وهو أن في مثل هذه الظروف، يمكن للمرء أن يجعل الناس تصدق أكثر التصريحات غرابة في يوما ما وهو على تمام التأكد أنه في اليوم التالي قادر على تقديم أدلة دامغة على زيف تلك التصريحات. فيحتمى الناس بملجأ السخرية بدلًا من التخلي عن الزعماء الذين كذبوا عليهم.
وسيحاجج الناس أنهم كانوا يعرفون طول الوقت أن تلك التصريحات كانت كاذبة، وسيعجبون لمهارة الزعماء التكتيكية العالية".
المقطع السابق هو من كتاب في أصول الشمولية للفيلسوفة حنا أرندت. ويمكننا بسهولة أن نحيله إلى ذاكرة حفل تدشين تفريعة قناة السويس عام 2015، والتي أُجبر وقتها كل من له محل عام في مصر على تعليق لافتات احتفالية بها.
ووصلت الدعاية التليفزيونية والاحتشاد الإعلامي المصاحب أن بعض العمال تحدثوا عن مشاركة الملائكة لهم في عملية حفر التفريعة، مما سرع من انهائها في وقت قياسي كي تنعم مصر برخاء ينتظرها جراء هذا المشروع الاستثنائي، الذي تم مقارنته بحفر قناة السويس نفسها، لدرجة تسميتها قناة السويس الجديدة، ومهاجمة كل من يطلق عليها لفظ "تفريعة".
لم يستغرق الأمر أكثر من سنتين، ليقال لكل من شارك وشاهد وانغمس وانهمك في هذا المشهد الطغياني، سواء عن إرادة أو رغمًا عنه، أن كل ما حدث لم يكن له جدوى اقتصادية بقدر ما كان يهدف فقط إلى رفع الروح المعنوية لعامة المواطنين.
من الصعب جدًا على أستاذ جامعي الاقتناع بأن مصر أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي، هو بالتأكيد يعلم أن خبرًا كهذا كاذب لدرجة الإضحاك، ذلك أن أسر أحد قادة أساطيل البحرية الأمريكية غير ممكن إلا كذروة درامية فى نهاية حرب عالمية طاحنة، يبدو الأمر بديهيًا وفقا لأبسط قواعد المنطق، لكن اللحظة التي يردد فيها هذا الأستاذ الجامعي بحماس وفخر وطني وعروق نافرة من الرقبة خبر أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، وهو على يقين تام بعدم معقولية هذا الخبر، هي دلالة كونك في عالم تحكمه الفاشية.
كان هذا منذ ثمانية سنوات، وقد تراكم على هذا العالم ما تراكم، وأصبح الحمل شديد الثقل. أما عن الضرر النفسي والمعنوي الذي وقع على هذا الشعب المسكين، فلا يمكننا الآن إدراك حدوده.