منشور
الجمعة 13 يناير 2023
- آخر تحديث
الجمعة 13 يناير 2023
بعد بضعة أسابيع سيتوقف صدى رنين ساعة بيج بن معلنًا ساعات اليوم بتوقيت جرينتش في بيوت ملايين متابعي إذاعة بي بي سي العربية ومقرها لندن. هذا ما أعلنته هيئة الإذاعة في سبتمبر/ أيلول الماضي.
للعارفين؛ لم يكن الخبر مفاجئًا، بل ربما متوقعًا منذ أكثر من عشر سنوات، حينما دار الحديث داخليًا عن جدوى خدمة بي بي سي العالمية فيما تحققه لبريطانيا على مستوى سياساتها الخارجية. وبالفعل تم إغلاق عدد من أقسام اللغات وقتها. ولم يُستثنَ القسم العربي من الحسابات تلك وضرورة مراجعتها.
كان التليفزيون حديثًا حينها، لكنه كان أحد أسباب مراجعة طبيعة الخدمة المقدمة من القسم العربي، إذ ذهبت الآراء باتجاه تعزيز خدمة التليفزيون على حساب الراديو، على اعتبار أنَّ تفضيلات الجمهور كانت لصالح المرئي والديجيتال، في مقابل خدمة الراديو. هذا على الأقل ما نقلته الأرقام حينها.
تشير إحصائية أجريت عام 2020 إلى أن جمهور بي بي سي العربية بلغ 42 مليونًا مع زيادة كبيرة لعدد مستخدمي وسائط الديجيتال المختلفة، بلغت نسبتها 200% في بعض البلدان كالجزائر والمغرب، نقلًا عن مؤسسة GAM المتخصصة في إحصائيات الجمهور في الأسواق الرئيسية.
تزامنت الثورات والانتفاضات العربية عام 2011 مع النقاشات الدائرة لتقليص الخدمة استجابة لمستجدات تفضيلات الجمهور، وابتعاده عدديًا عن الوسائل التقليدية في متابعة الأحداث. وربما جاءت أحداث العالم العربي لتكون طوق النجاة الذي أطال بعمر الراديو بضع سنوات أخرى.
لكننا أدركنا حينها أنها مسألة وقت فقط قبل أن تغلق استديوهات الإذاعة للأبد، خاصة بعد انتقال المكاتب من مبنى بوش هاوس الشهير إلى مبنى حديث في وسط لندن. هناك، تقلصت مساحة استديوهات الإذاعة لصالح استديوهات التليفزيون، كما خفضت ميزانية الراديو للغرض نفسه.
بدأت إذاعة بي بي سي العربية البث في يناير/ كانون الثاني 1938 بعبارة "هنا لندن" الشهيرة، على لسان المذيع أحمد كمال سرور. وكان لي شرف المرور بتلك المؤسسة العريقة لعدد قليل من السنوات نسبيًا، مقارنة بجيل المؤسسين الذين قضى معظمهم حياتهم المهنية في استديوهاتها.
كما عاصرت بعضًا من جيل الأوائل الذين لن تكفي هذه السطور لإيفائهم حقهم بالعرفان والشكر لكل ما تعلمته مع أبناء جيلي، من أصول المهنة على أيديهم، وصدى توجيهاتهم التي ما زلت حتى اليوم أدين لها بكل ما عايشته في تجربتي الصحفية والإعلامية.
القيمة المهنية الأولى التي تتعلمها في البي بي سي، أن السبق الصحفي ليس هدفًا، بل المصداقية. ما جعل المحطة تركز على نوعية مستمعيها أينما كانوا على حساب الانتشار والمنافسة في سوق السباقات والإمكانيات المادية الهائلة لدى المؤسسات المنافسة خاصة الخليجية منها.
آمل ألا تقع المؤسسة العريقة في فخ المصالح والتوازنات في العالم العربي
نوعية الفئة المستفيدة من خدمة الإذاعة، كانت أيضًا عاملًا في الإصرار على الإبقاء عليها. فـ "راديو لندن"، التسمية التي يطلقها معظم مستمعي بي بي سي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كان في وقت من الأوقات الوسيلة الوحيدة التي تنقل الأحداث لسكان المناطق النائية. كما ساهم بدور حقوقي لتمكين المرأة في المناطق المحرومة، من خلال توجيه برامج للفئات المهمشة في مجتمعاتها مباشرة، وإثارة القضايا التي تتعلق بشؤون المرأة. وهذا مثال من أمثلة عديدة، كسياسة الحياد المطلق التي اتبعتها الهيئة لعقود طويلة.
منذ يومين دُعيت من قبل زملائي السابقين في برنامج بي بي سي إكسترا، أحد البرامج التي كنت أشارك في تقديمها عبر الإذاعة إلى جانب البرامج التليفزيونية، لتسجيل حلقة وداعية من البرنامج الذي قدمته لخمس سنوات بشكل شبه يومي، ونعلن من خلاله الساعات الأخيرة بتوقيت جرينتش.
ساعتان استعدنا فيهما الذكريات بحلوها ومرها، لنشارك بها للمرة الأخيرة مستمعي البرنامج الأوفياء، الذين ظلوا على ولائهم لإذاعتهم وأبقوا على تفاعلهم مع برامجها ومذيعيها على مدار السنوات.
حديث النهايات عن البدايات مليء بالشجن، وبعض الدموع، والكثير من الفرح باستعادة تلك الأيام الأولى لانطلاق البرنامج، عندما كنا مدفوعين بشغف المعرفة وتلبية شرف الاستحقاق بأن تكون مذيعًا في بي بي سي.
كانت تلك التجربة بالنسبة لي تحديًا شخصيًا حتى اجتزت اختبار القبول، بعد خمس محاولات وسعي دائم لتخطي الامتحان المكتوب، الذي ينبهك من اللحظة الأولى بأن الأمر جديٌّ جدًا، وأن نيل المطالب ليس بالأماني! كان يكفي أن تعلن أنك تمكنت من اجتياز اختبار بي بي سي، ليكون ذلك بمثابة الشهادة على كفاءتك واعترافًا بها.
جمعني اللقاء بأصدقائي وزملائي، هالة صلاح وكريمة كواح وأحمد زكي، جزء من فريق البرنامج الأوائل، وجوه كثيرة جاءت وأخرى ذهبت وبقي لنا ما اكتسبناه من معرفة وخبرة، أعانتنا في مسيرتنا المهنية وكانت الجسر الذي عبرنا منه إلى ضفاف كثيرة فيما بعد.
أعلم أن الخدمة العربية ستستمر بأشكال ووسائط أخرى، وقد تستطيع مرة أخرى الوصول إلى رعاة الإبل الذين كنا نتواصل معهم، أو زعماء القبائل في جنوب السودان، أو إحدى الأمهات في جبال اليمن البعيدة لتشاركنا قصتها.
الوسيلة التي يصدق الناس أخبارها ويثقون بها، على الأقل أكثر من غيرها، أو هكذا آمل، لا بد أن تجد طريقة لتبقى، لأن ما قدمته بي بي سي العربية لم ولن تقدر أي مؤسسة أخرى أن تقدمه.
وآمل أيضًا، ألا تقع هذه المؤسسة العريقة في فخ المصالح والتوازنات في العالم العربي، وأن تحارب مع الأجيال المقبلة من الصحفيين والإعلاميين للنجاة بالمصداقية ومبدأ الحياد والاستمرار على نهجه. فهي قارب النجاة الأخير في بحر مليء بالغرقى.
في ختام لقاء لملمنا فيه ذكريات الأمس، انطفأت الإشارة الحمراء معلنةً انتهاء البث وانتهاء تجربة عمرها 85 سنة، كنا محظوظين أنَّا كنا جزءًا منها. وأردد بيت الشاعر أبو تمام، الذي ألقاه الزميل أحمد زكي في لقائنا "ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام". أحلام حققناها وكانت البي بي سي مسرحها، اجتهدنا وأبدعنا، أخطأنا وتعلمنا، آملين أن نكون تركنا أثرًا طيبًا يدوم.