لا يسَع مَن نُزِع مِن وطنه مثلي، طوعًا أو قسرًا، إلا أن يتسمَّر أمام الشاشات في بلاد الاغتراب، نتابع موتنا مباشرة؛ موت أهلنا في غزة وموت الروح فينا. لا نبحث عن الجديد فلا جديد في مشاهد الخراب، كلها متشابهة من إدلب إلى غزة، ولكننا لا نستطيع الفكاك منها وكأننا في متابعتنا هذه نقول إن أضعف الإيمان أن تتوقف الارض عن الدوران، ونركن أمور حياتنا حتى إشعار آخر.
هذه الحرب "غير"، عبارة يرددها كثيرون في كلِّ مكان وهم يعلِّقون على مجريات الحرب في غزة مستبقين المآلات، والأحداث تؤشر بالفعل على أنها "غير". لأول مرة تتسع رقعة الحصار الى خارج حدود غزة، لنكون جميعًا محاصرين، وكأنَّ حدود السجن الكبير الذي يأسر أهل غزة أصبح جزءًا منَّا، نحمله حتى في غربتنا. حصار يطال الكلمة والتعبير عن الرأي، وحتى التعاطف بوجه مذبحة تنقلها الشاشات مباشرة.
ليست الحرب الأولى وحتمًا لن تكون الأخيرة، قبلها العراق وسوريا واليمن، ومرات ومرات غزة، لكنها المرة الأولى التي نشعر فيها جميعًا بأنهم يريدوننا جميعًا موتى ممنوعين من الكلام والتعبير والاحتجاج.
قبل الأمم المتحدة كانت هناك عصبة الأمم، وهي تعبير يتماشى مع ما في مخيلتي لكيان هذه الأمم؛ هي فعلًا عصبة، اتفقت جميعها على ألَّا نعيش.
خيبتي في بي بي سي
بي بي سي كانت المؤسسة الأم التي تعلمت بها ألف باء الصحافة والإعلام ومبادئ المهنية والحياد. تعلمنا فيها كيف نزن الكلمة بميزان الذهب وأن نكون على مسافة واحدة من الجميع. لكنَّ ميزان المؤسسة اختل منذ بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا، عندما أصبح المذيعون المخضرمون أبواقًا تردِّد الخطاب الرسمي للحكومات الأوروبية والغربية.
ولم يختلف الحال كثيرًا في حرب إسرائيل على غزة، مع تحوِّل المراسلين إلى ناقلين للأحداث كما يرويها الطرف الإسرائيلي، ولكم أحزنني تقرير كبير مراسلي القناة جيريمي بوين المراسل الحربي الذي غطى حروب لبنان والعراق وأفغانستان وغزة، وكان مثالًا يُحتذى في العمل الصحفي الميداني.
لكنَّه في أشدود، أخذ تصريحات الضابط الإسرائيلي على عواهنها متحدثًا عن قطع رؤوس الأطفال والرضع دون نقاش أو استفسار. لم يطلب منه إثبات ادعاءاته أو تقديم دليل واحد على تلك الجريمة. سقط بوين في هذا الاختبار وسقطت معه بي بي سي، التي وصفت لاحقًا المتظاهرين الذين خرجوا في مختلف المدن البريطانية يطالبون بوقف استهداف المدنيين بأنهم "مناصرون لحماس"، لتعود وتعتذر بعدها، وتوضح أنهم مناصرون للفلسطينين وليس لحماس.
في نشرات الأخبار، ضحايا غزة مجرد أرقام، حرفيًا أرقام لا يشيرون فيها حتى إلى عدد الأطفال والنساء الذين قضوا جراء الغارات الإسرائيلية. الأمر مختلف في عرض القصة من الجهة المقابلة؛ الإسرائيليون أشخاص لديهم أسماء ووجوه وعائلات وقصص، تُخصِّص لها النشرات المساحات الخاصة. فقط الفلسطينيون مجرد أرقام.
هذا الحصار طال أيضًا زملاءنا في القسم العربي في مكتبيّ القاهرة وبيروت، حيث أُبلغ ستة من زملائنا بإيقافهم عن العمل واحالتهم للتحقيق، بسبب تغريدات اعتبرتها المؤسسة متعاطفة مع الفلسطينين.
سأتحدث عن اثنين من الزملاء المحالين للتحقيق، لأنني عملت معهما مباشرة لسنوات؛ ندى عبد الصمد، وسالي نبيل، واختبرت مهنيتهما طوال السنوات التي جمعتني بهما في المؤسسة.
ندى عبد الصمد، مراسلة ومديرة مكتب بي بي سي في بيروت منذ ما يزيد عن 25 عامًا، وقفت فيها ندى على مسافة واحدة من كل الأطراف المتنازعة في لبنان، ما أكسبها احترام وثقة الجميع. كانت مصدر الخبر الأول في ظلِّ كلِّ الظروف الصعبة، ولم تخذل مهنيتها أبدًا كما لم تخذلها المهنية، فكانت دائمًا سبيلها لفتح أبواب المسؤولين في كل الجهات، يستقبلونها بمجرد إعلان الاسم الذي كان كفيلًا وحده بضمان المصداقية.
أما سالي نبيل لمن لا يعرفها، فهي تلك المراسلة التي غطت أحداث ثورة 25 يناير في شوارع القاهرة، مُعرِّضة حياتها للخطر لتكون في قلب الحدث، متسلحة بمهنيتها وحيادها رغم اختلاط المفاهيم والأوراق حينها، لكني كنت أنتظر تقريرها لأعرف حقيقة ما يجري على الأرض، وأحدد وجهتي ومساري المهني.
ودون سابق معرفة، أستطيع أن أؤكد أن الزملاء الأربعة الآخرين هم أبناء هذه المؤسسة، تعلموا مبادءها والتزموا بها.
لكنَّ ذلك لم يشفع لهم عند إدارة هذه المؤسسة التي انساقت وراء تقرير نشرته التليجراف، عارضة أسماء زملائنا وصور اثنتين منهم، معرضَّةً إياهم لخطر الملاحقة وجرائم الكراهية التي تلاحق من يجرؤ على التعبير عن رأي مخالف، أو يطالب بوقف المجزرة بحق المدنيين في غزة.
أخبرني زميل لا يزال يعمل لدى المؤسسة أنَّ بي بي سي تقع تحت ضغوط كبيرة من اللوبي الصهيوني، الذي يتابع تحركات كل الزملاء على مواقع السوشيال ميديا، ويرسل مئات الشكاوي من قبل لجان مختصة مهمتها مراقبة كل ما ينشر وملاحقة الزملاء على كل المنصات. ورغم معرفة المؤسسة الغراء بذلك، لم تستطع حماية صحفييها وأصدرت حكمها حتى قبل انتهاء التحقيقات المزعومة.
أعمى بعيون أمريكية
تقول أغنية "اشهد يا عالم علينا" التي قدمتها فرقة العاشقين أثناء حصار بيروت عام 1982، بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي لها "اللي ما شاف من الغربال يا بيروت أعمى بعيون أمريكية".
اشهد يا عالم علينا - فرقة العاشقين
الغربال اليوم يوضع أمام الكاميرات وعلى السوشيال ميديا، لكنه لن يحجب الرؤية إلا عن من أراد أن يرى بعيون المشروع الصهيوني، المشروع الذي ستخجل منه البشرية لا بد، مهما طال الوقت.
في زمن يزداد وعي الناس فيه بحقوق الانسان وحرية التعبير، تُرتكب المجازر علانية على مرأى من العالم وتجري محاولات تغييب الحقائق عمدًا، لكنَّ الوصول إلى الحقيقة صار أسهل، بنفس سلاحهم الذي يستخدمونه ستصل المعلومة وتكشف الحقائق.
ربما لن تتحقق للفلسطينيين مكاسب حقيقية فورية على الأرض، تخفف معاناتهم الممتدة، لكنَّ القضية ضمنت أن جيلًا جديدًا في كل أنحاء المعمورة؛ من أمريكا اللاتينية إلى الصين ومن الولايات المتحدة إلى أوروبا، بات يعرف ويتابع، وأنَّ الضمير العالمي لن يسمح بأن تطول المعاناة 75 سنة أخرى، وأن النصر الحقيقي هو محو أميَّة العالم عمَّا يحدث من انتهاكات بحق أهلنا في غزة وفلسطين.