أرجئ المقال الأخير من حلقات بدأتها بمقال "تشويم الصحافة المصرية"، وناقشت فيها مفاهيم الخلجنة والبدونة والخوجنة. حين يمسك اللهب بطرف الثياب، فمن الترف أن أفكر إلا في الحريق. المأساة تمسّ الجلد الحي، والرائحة تتطور من الشياط إلى الشواء.
الرصاصة الصهيونية لا تخرج من سطور شروح العهد القديم فقط، هذا تبسيط يسوِّغ تطرفًا أيديولوجيًا مضادًّا. الأدق أنَّ الغزو والإحلال والإبادة من تمثيلات الفلسفة النيتشوية، حتى من قبل وجود نيتشه. وفي وقت مبكر، ديسمبر/كانون الثاني 1916، نشر اللبناني نقولا الحداد في مجلة "الهلال" مقالًا عنوانه "خطر تعاليم نيتشه على الهيئة الاجتماعية"، محذرًا من إفناء الضعيف على يد السوبرمان، "الإنسان الأعلى". وكانت النازية دليلًا.
النازية مفهوم غربي بامتياز، وإن اقترن بالجنون الألماني. للرغبة الرأسمالية في الاستحواذ على الثروات سعارٌ لا يبالي بالتضحية بالمواطنين أنفسهم. في يوم واحد في الحرب الأوروبية العظمى الأولى، 22 أغسطس/آب 1914، فقد الفرنسيون 27 ألف جندي. وفي الحرب الأوروبية الثانية، قُتِل 27 مليونًا من الروس منهم نحو 8.7 مليون عسكري. أما الأمريكان فقتلوا في فيتنام أكثر من خمسين ألفًا، وأصابوا ثلاثة أمثال هذا العدد بجراح وعاهات.
سرديات مخصصة للحروب
لم يتعرض مجرمو الحرب من الحلفاء للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. جرائم مجانية تمثل جنون الاستعراض، كما جرى في مدينة درسدن، والحرب تكاد تنتهي ومعها هتلر. لا علاقة لداعش أو حماس بهذه الجرائم.
الجريمة تسبقها شائعات إعلامية لتهيئة الرأي العام. استراتيجية مجربة، من الحروب الصليبية إلى نسف المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، وقتل نحو 500 شهيد من المدنيين مساء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في عام 1881 مثَّل أحمد عرابي خطرًا على مخططاتهم لمستقبل المنطقة. لم يكن ينتمي إلى داعش أو حماس، بل تبنى إصلاحات دستورية، وشرع مجلس النواب في وضع دستور للبلاد، فسارعت الصحافة البريطانية إلى اتهامه بأنه "ديكتاتور مصر". لقب ربما لم يلصق قبله بأحد. وفي 10 يونيو/حزيران 1882 نشرت صحيفة "أخبار لندن المصوّرة" صورته في الصفحة الأولى، وتحتها "عرابي باشا ديكتاتور العالم في مصر". نجحت خطة شيطنة عرابي، وفي الشهر التالي بدأ الغزو.
لم أعش الحالة العرابية، وإن رأيت آثار الاحتلال البريطاني الذي استمر 72 عامًا. لكني في اختبار فلسطين 2023 شهدت سقوط الديمقراطية الغربية، وسقوط حرية الصحافة. هناك بقايا استعمارية في الروح الغربية تنتظر خدش السطح الهشّ؛ لتفوح رائحة الفاشية. في مسلسل "التاج"، تُري الملكة إليزابيث (كلير فوي) ابنيها تشارلز وآن مُجسَّمًا صغيرًا للكرة الأرضية، وتحدد مواضع المساحات الجغرافية التابعة للتاج البريطاني "كل هذه المناطق أراضٍ بريطانية في ما وراء البحار"، وتجب زيارتها بين الحين والآخر، لضمان تجديد التبعية للإمبراطورية، "وكيلا تراودها أفكار سخيفة مثل الاستقلال". حرية الشعوب سخافة، هكذا أيضًا رآها الجنرال ديجول، وهو يسحق الثورة الجزائرية التي انتزعت الاستقلال.
في الحرب الروسية على أوكرانيا تم تجييش الغرب. أصدرت رابطة الدوري الإنجليزي بيانًا لدعم أوكرانيا. والمباريات تبدأ بدقيقة صمت للتضامن، وقادة الأندية يرتدون شارات خاصة بألوان أوكرانية، والشاشات الكبرى في الملاعب تعرض العلم الأوكراني. وافتُتحت المهرجانات السينمائية الكبرى بكلمة مسجلة لرئيس أوكرانيا، واستُبعد فنانون روس لم يعلنوا تأييد القيادة السياسية لبلادهم من المشاركة.
وشملت مظاهر الانحياز ضد روسيا تجميد أموال الروسي أبراموفيتش مالك نادي تشيلسي، وفرضت لندن حظرًا على تعاملاته مع أفراد أو شركات بريطانية. وفرضت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس تجميدًا كاملًا لأصول سبعة رجال أعمال روس، وحظر سفرهم؛ لتشديد الضغط على موسكو. وفي حالة فلسطين تبدت الشراسة الغربية.
سلاح فاعل ومضلل
قبل بدء العدوان الوحشي سارع قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى دعم إسرائيل، وتفويضها في اختيار وسائل التنكيل بالفلسطينيين. أتوقف هنا أمام مثال عدواني واحد هو سحق مستشفى المعمداني في غزة. حالة نموذجية للارتباك والتضليل الاستباقي والتالي.
مهدوا للقصف بادِّعاء أنَّ لحماس أنفاقًا تحت المستشفيات. وبعد القصف كتب حنانيا نفتالي عن إطلاق حماس صواريخ من المستشفيات والمدارس، وأن "الدفاع الجوي الإسرائيلي قصف إرهابيي حماس داخل مستشفى بغزة". حنانيا، الصحفي المسؤول المقرب من قيادة جيش العدو، لن ينشر التغريدة إلا بتعليمات عسكرية، لكنه سارع إلى حذفها، واتجهت الرواية الصهيوأمريكية إلى اتهام الجهاد بإطلاق صاروخ بشكل خاطئ؛ فأصاب المستشفى.
التضليل كشف عورة مؤسسات ومنابر إعلامية سقطت في اختبار غزة 2023. في فيديو متداول، نسي المخرج في قناة CNN الأمريكية أنه على الهواء، فتابع توجيه مراسلة القناة والمصور بالتليفون، طالبًا التظاهر بالتعرّض لصواريخ حماس "تلفّتي حولك بطريقة تظهري فيها بأنك مذعورة من القصف".
الإعلام سلاح في المعركة، فاعل ومضلل. وقد شهدتُ تجربة تجسد الاحترام المهني في رويترز. بثَّت الوكالة يوم السبت، 5 أغسطس/آب 2006، صورة لآثار غارة إسرائيلية على بيروت، وبعد أربعة أيام أعلنت سحبها وبدَّلتها، وقررت عدم التعامل مع المصور اللبناني الذي تلاعب في الصورة لإظهار المزيد من الدخان "هذا يُمثِّل انتهاكًا خطيرًا لمعايير رويترز".
ربما أكتب يومًا عن تجربتي في رويترز، فاعلًا وشاهدًا على كيفية التحول من المتابعة الموضوعية إلى الانخراط الذكي. باندلاع ثورة 25 يناير، انحازت رويترز إلى الاحتجاجات، وتسلحت بكتيبة من محرريها المصريين والعرب والأجانب. من يمرّ بميدان التحرير في طريقه إلى مقر الوكالة يكتب قصة خبرية إذا أراد.
استُدعي المتقاعدون. ومن لندن جاءت مديرة تحرير أخبار الشرق الأوسط سامية نخّول، وكتبت بعد يومين من خلع مبارك قصة خبرية مهمة، شائقة وطويلة في نحو 1500 كلمة، عنوانها "المصريون يغيرون النظام على طريقتهم.. بخلاف العراق". هذا أسعدني كثيرًا، فكل من يشارك في هدم عرش حسني مبارك يستحق الشكر. وكانت الجزيرة حاضرة أيضًا.
في استضافات خجولة لدبلوماسيين فلسطينيين، بدعوى التوزان، تحول المذيعون إلى ضباط استخبارات
في مواجهة الدكتاتور العجوز لن ننتقي الأدوات المساعدة في خلخلة الوتد. رويترز، الجزيرة لا يهم. في كتابي "الثورة الآن" سجَّلتُ عن يوم الأحد 30 يناير/كانون الثاني 2011 أن الكاتبة الجزائرية آمال فلاح سألتني في إيميل من فرنسا "ماذا يحدث عندكم؟ الجزيرة تجازوت الإخبار إلى التحريض".
كلتاهما، الجزيرة ورويترز ومن دون اتفاق، اتخذت موقفًا متعقلًا ورصينًا أكثر من اللازم بصعود تنظيم الإخوان. وكان المتصل برويترز، ابتداءً من 17 أبريل/نيسان 2008، يسمع على الطرف الآخر: طومسون رويترز، بدلًا من "رويترز"، إذ وافقت مؤسسة رويترز في 15 مايو/أيار 2007 على شرائها من شركة طومسون بأكثر من 17 مليار دولار. هل كان الرهان الرأسمالي على بقاء الإخوان طويلًا؟ عندي كلام.
كلُّ كلام لا يمس إسرائيل مسموح
في محرقة غزة 2023 انحازت إلى القتلة مؤسساتٌ إعلامية أوروبية وأمريكية. الإعلام تروس في خدمة آلة القتل الصهيونية. فُصل صحفيون، BBC تشنّ حملة تأديب عقابية لمحرريها المتضامنين مع الضحايا الفلسطينيين. لا ينقص هذه الوسائل الإعلامية إلا التشبه بالعجائز من قادة الغرب الداعمين لإسرائيل، كيهود لا كمسؤولين.
هناك يمكن أن تُحاكم بتهمة ازدراء المثليين وإهانتهم إذا وصفتهم بـ"الشواذ"، أو بالعنصرية إذا وصفت لاعبًا أسود بأنه "بربري" أو "قرد". وحين يقول وزير الحرب الصهيوني يوآف جالانت إن الفلسطينيين "حيوانات بشرية"، لا يجرؤ أحد على التعليق؛ فللقاتل الصهيوني حصانة، ولا يُحاسَب على أي شيء، لا الأفعال ولا ردودها.
كلُّ كلام مسموح به ما لم يمسّ إسرائيل. لا حقَّ للضحية في الأنين. في عام 2020 سحبت رويترز جائزة كورت شورك للصحافة الدولية من الصحفية الفلسطينية شذى حماد المقيمة في الضفة الغربية، رضوخًا لاتهامات مرسلة بمعاداة السامية.
إرهاب أبيض ناعم. ولم يكن أدولف هتلر نغمة نشازًا، الأمريكان أنفسهم لم يرفضوا التعامل معه حتى بدايات الحرب. في الدرجة فقط يختلف نابليون وهتلر في اجتياح أوروبا. لا فرق بين ديجول الذي رأى الجزائر أرضًا فرنسية وتشرشل الذي وصف السودانيين في كتابه "حرب النهر" بالبدائيين. تشرشل وصف الهنود الحمر، الذين لم يكونوا هنودًا ولا حُمرًا، بأنهم بدائيون تستباح إبادتهم، كضرورة لحلول الرجل الأبيض.
لا وسيلة إعلام أجنبية أدانت إسرائيل بقصف مستشفى المعمداني. وفي استضافات خجولة لدبلوماسيين فلسطينيين، بدعوى التوزان، تحول المذيعون إلى ضباط استخبارات يتفننون في انتزاع اعتراف يدين الضحايا، بحجة مسؤوليتهم عن الطلقة الأولى.
عودٌ خبيث إلى نقطة الصفر، تتجاوز أصفار الاحتلال المتنافي مع المعاهدات والقوانين الدولية. بالقفز على مقدمات الصهيونية منذ وعد نابليون ووعد بلفور وخدمات الإنجليز للعصابات اليهودية، يوجد القرار الأممي رقم 181 لعام 1947، ويقسم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين الذين يحق لهم، الآن، إعلان القدس التي لم يتضمنها قرار التقسيم، عاصمة للدولة الفلسطينية، أو فلتستمر المقاومة حتى يدرك رعاة إسرائيل أن بقاءها أكثر تكلفة من دواعي إنشائها.
قصف المستشفى يبدو الآن ذروة المأساة. مأساة على الجانبين، يتعمد العدو إخفاء صور وجعه؛ لكي يصدَّر للعرب بصور الدمار في غزة حتمية الهزيمة، وأن المقاومة عبث. لو شكَّ الجزائريون في جدوى مقاومة الاحتلال الفرنسي النووي لما نالوا الاستقلال بفضل واحدة من أعظم الثورات في التاريخ.
ليس للمقاومة في فلسطين ما تخسره. وإسرائيل ستخسر رهان رعاتها على مشروع وجودها كبديل لحاملة طائرات في المنطقة. العدو ينزف أكثر، وليس بعيدًا أن ينفجر من الداخل، من داخل المفاهيم الصهيونية حين تصل إلى اليأس، فيُنزع عنها الغطاء الكولونيالي، ويُسحب منها العطاء، لعدم قدرتها على الوفاء بشروط المناقصة. سنشهد انهيار هذه الظاهرة المضادة للتاريخ.