في الطوفان نحفظ بعض الأسماء، ربما اسمًا. لو قُدِّر لاسم واحد أن ينجو، ويتصدر المشهد، لأسهم في تغيير المجرى والتعجيل بإنهاء المدّ الطوفاني، بقطع إمداداته، ونزع الغطاء الأخلاقي عنه. اسم محمد الدرة لا يزال في الصدارة، بكارة متجددة منذ انتفاضة 2000. يليه في الانتفاضة نفسها طفل واجه دبابة إسرائيلية بحجر، اسمه فارس عودة.
لكن أثناء الحملة الصهيونية لإبادة غزة 2023، لم يصعد اسم الطفل الشهيد يوسف محمد حميد أبو موسى. لم أتوقع هذا المصير ليوسف، بوسامته، وبلاغة إيجاز صرخة أمه، واسمه ذي الحمولة الدينية والأسطورية. كيف فاتنا تكريس الاسم والصورة والفاجعة؟
لأيِّ اسم دلالة أكبر من حروفه وأعمق. في الفيلم الأمريكي صمت الحملان تتوجه الأمّ بنداء تليفزيوني يستهدف إنقاذ ابنتها المخطوفة. الصغيرة كاثرين (بروك سميث) بنت وحيدة للسيناتورة روث مارتن (ديان بيكر). السيناتورة مارتن تستعطف الشخص الذي يحتفظ بابنتها بنداء مؤثر تؤكد فيه أنَّ "كاثرين رقيقة جدًا"، وترجوه أن يعامل "كاثرين أفضل مما عاملك العالم".
تتعمد تكرار اسم "كاثرين"؛ فتعلّق عضوة مكتب التحقيقات الاتحادي كلاريس ستارلينج (جودي فوستر) قائلة إن الخاطف "إذا نظر إلى كاثرين كإنسان، وليس كموضوع، سيكون من الصعب أن يؤذيها". فمن دون الاسم يُجرَّد الإنسان من آدميته. تنطمس روحه، فيصير شيئًا، رقمًا يشبه السابقين واللاحقين في القائمة.
الإنسان، باسمه، ذاتٌ. شخص لا يشبه إلا نفسه. ينتمي إلى أبويه. له عائلة وتاريخ وذكريات وزملاء وأصدقاء وجيران. لا يطويه النسيان؛ فاسمه يُحفر في الذاكرة العمومية الأقوى من السجلات الرسمية. ومن دون الاسم يُمحى. تزول الذات، ويبقى مجرد موضوع. لهذا السبب، حرص شادي عبد السلام على أن يكون فيلم "المومياء" بين قوسين، أو لوحتين. قبل عنوان الفيلم، نقرأ في اللوحة الأولى هذه الكلمات: يا من تذهب ستعود. يا من تنام سوف تنهض. يا من تمضي سوف تبعث.
كيف يُبعث ولصوص الآثار تراه موضوعًا للسرقة، سببًا للثراء، جثة تنوء بأثقالها من الحليّ والطلاسم؟ يتساءل ونيس، بطل الفيلم، في لحظة إفاقة "هل هذا عيشنا؟"، يدرك أنَّ هؤلاء أجداده، ذواتٌ لهم أسماء، وسوف يبعثون. وفي اللوحة الأخيرة/ القوس الثاني، بعد نهاية الفيلم نقرأ: انهض. فلن تفنى. لقد نُوديت باسمك. لقد بُعثت.
لا يوجد هذا النص، حرفيًا، في كتاب "الخروج إلى النهار" الشهير إعلاميًا بكتاب الموتى. لكنَّ شادي عبد السلام اهتدى إلى المعنى، من نصوص متفرقة أوحت إليه بهذه الخلاصة الباهرة. وقد تعانق القوسان، جملتا البداية والنهاية، مع الصورة الفيلمية، في إحداث هذا التأثير.
الصورة التي تكتب الاسم
العدو يحرص على طمس الهويات، بإخفاء الأسماء. في أبريل/نيسان 2002، انتهى حصار جنين بقتل 58 شهيدًا لا نعرف أسماءهم. لحقوا في صمت بقوائم ضحايا سابقين. وحده محمد الدرة أنقذته صورة التقطها المصور الفرنسي شارل إندرلان مراسل القناة الثانية الفرنسية لمحمد وهو يُقتل، في 30 سبتمبر/أيلول 2000، جوار أبيه.
الصورة فضحت تواطؤ الغرب مع القتلة، وصار قتل محمد الدرة عنوان الجريمة. لم يحتمل العدو آثار الصورة، حتى إن مدير وكالة التصنيف الإعلامية فيليب كارسنتي ادّعى عام 2004 أن اللقطات المصورة مصطنعة، ولا دليل على قتل الصبي؛ فقاضته القناة الفرنسية بتهمة التشهير.
في فبراير/شباط 2012 قضت محكمة التمييز، أعلى هيئة قضائية في فرنسا، لصالح شارل إندرلان مراسل القناة الفرنسية، وإعادة محاكمة كارسنتي أمام محكمة استئناف. وفي مايو/أيار 2013 أصدرت حكومة العدو الصهيوني تقريرًا يدَّعي أنَّ التسجيل المصور "مضلل". وفي الشهر التالي أدانت محكمة فرنسية كارسنتي بتهمة التشهير بالمصور.
"شعره كيرلي وأبيضاني وحلو".. ماذا جرى لتنسف العاصفة هذه الصيحة ويغطي غبار القصف هذه الصورة
كلُّ هذه المناهدة بسبب صورة، في حين لا ينكر العدو قتل المئات من المدنيين في مجزرة قانا الأولى 1996، ومجزرة قانا الثانية 2006، وفي قصف غزة في أعوام 2008، 2014، 2018، 2019. آلة القتل لم تستثنِ الناشطة اليهودية راشيل كوري؛ حاولت منع هدم منازل مواطنين فلسطينيين في رفح، عام 2003، فسحقها سائق جرافة إسرائيلية.
لا يهتم العدو بأن راشيل أمريكية. شيرين أبو عاقلة أيضًا حملت الجنسية الأمريكية، وقتلها العدو في مايو/أيار 2022. أمريكا تهمل مواطنيها وحملة جنسيتها، ما لم ينضموا إلى جيش الاحتلال. وحين تنجح المقاومة في أسرهم، يرفعون جواز السفر الأمريكي، ويجادلون بأنهم مدنيون. طيب، ايه اللي ودّاهم هناك؟
العدو يتجاهل قتل المئات من المدنيين، ويريد انتزاع براءته من صورة التقطها المصور الفرنسي مصادفة. الصورة وثيقة، عمر ثان. لنتأمل هذه الصور: أم كلثوم بالمنديل. عبد الوهاب المسيري حين دفعه جنود الشرطة في 2007 وكاد يقع ويصاب لولا المتظاهرين. خالد سعيد قتيلًا مشوَّهًا، فرطت أسنانه، مصحوبًا بلقب "شهيد البانجو" كما قال خيري رمضان في التليفزيون.
صورة محمد البوعزيزي في حفل زفاف يطلق ذراعيه للريح. ثم صورته راقدًا ينتظر أن تتحرر روحه، ضائقًا بغطاء أبيض يلف جسده ما عدا فتحة ضيقة تسمح له بالتنفس، غائبًا عمَّا حوله، متوحدًا بذاته في جلال، غير معنيٍّ بغطاء آخر يكسوه من القدمين إلى الصدر، غطاء ملون، نظيف لا يجرح كاميرا ترصد لحظة امتنان من ديكتاتور متأنِّق، يزوره لإبراء الذمة وتبديد سحب الغضب.
في متاهة أيامه الأخيرة، وقف زين العابدين بن علي وسط فريق طبي في المستشفى، وامتدت ذراع تحمل ميكروفون التليفزيون الرسمي، لتسجيل ما يتكرم بقوله، مستعدًا ببدلة داكنة، وأسىً مصطنع، ووجهٍ خالٍ من الندم، وشعر مصبوغ مصفف بعناية، وكفه اليسرى فوق اليمنى.
"شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"
لصورة جيفارا بالبيريه الأسود ذكرى شخصية. في شتاء 2015 رجع ابني آدم من تمرين الجمباز، وحول معصمه سوار تزينه صورة لا يعرف صاحبها. صورة "البطل الثائر"، بنظرته المتحدية، التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا، في حفل في هافانا عام 1960. فتحت الصورة الأيقونة لكوردا باب الشهرة، وعبرت الأجيال واللغات، لا تنافسها إلا أيقونة السيد المسيح.
لم يعترض على استخدام صورته رمزًا للاحتجاج، ولكنه رفض ابتذالها في أعمال تجارية تسيء إليه وإلى معنى جيفارا. في عام 2000، قبل وفاة كوردا بعام، وافق على تسوية مع وكالة إعلان بريطانية لاستخدام الصورة في حملة دعائية لمشروب الفودكا، مقابل 50 ألف دولار تبرع بها لشراء أدوية للأطفال المرضى، وقال "لو كان تشي على قيد الحياة لفعل ذلك". كوردا التقط تلك الصورة، في ثوانٍ، وباب السماء مفتوح في ليلة قدر.
أعود إلى صورة يوسف. أبوه طبيب فلسطيني، وأمه تحمل الجنسية المصرية. في المستشفى بحثت عنه أمه، غير مصدقة أنَّ مكروهًا أصابه في نوبة قصف. في الفزع، وصفت الأم ابنها يوسف "شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو". ماذا جرى لكي تنسف العاصفة هذه الصيحة، ويغطي غبار القصف هذه الصورة، فتضيع ملامحها مع شهداء تزيد أعدادهم على 13 ألفًا، منهم رضّع في حضانات انقطع عنها الأكسجين بأمر العدو مانع الوقود، وعجائز احتموا بالمستشفيات فقصفتها قذائف هبطت فورًا من أمريكا إلى غزة، وأطفال لم يجدوا مدارسهم.
لم يكد العام الدراسي يبدأ حتى انتهى، فتلاميذ غزة نجحوا جميعًا، ارتقوا درجات، لينالوا "الشهادة".