إنه الحادي والعشرون من أبريل/ نيسان عام 1996. تجمعنا كمحررين في صالة تحرير ما سيعرف فيما بعد بـتلفزيون بي بي سي العربي "الأول" لتمييزه عن تلفزيون بي بي سي الثاني الذي انطلق عام 2008.
تختلف التجربتان على نحو جذري. الأخيرة، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، خرجت من رحم القسم العالمي (BBC World Service) كامتداد لخدمتها الإذاعية التي بدأت عام 1938 ولخدمات البث عبر الإنترنت التي بدأت عام 1999.
أما تلفزيون بي بي سي الأول فكانت منتجًا تجاريا، ولد باتفاق وقعه الجناح التجاري لبي بي سي، مع شركة الموارد السعودية، المالكة لمجموعة قنوات أوربيت.
في ذلك الصباح الأبريلي، علا الوجوم وجوهنا ونحن ننتظر مجيء أحد كبار المسؤولين التنفيذيين ليخبرنا رسميًا أن التلفزيون توقف وليجيب على أسئلتنا الحائرة. الأسابيع الماضية شهدت مماحكات بين المؤسستين بسبب استضافتنا لشخصيات سعودية معارضة في إطار تغطيات إخبارية تخص المملكة. وقتها لم تكن المحطة تبث مباشرة لجمهورها في العالم العربي. إذ تخرج إشارات البث مشفرة من لندن إلى محطة إعادة بث تابعة لأوربت في روما، ومنها يعاد إرسال المحطة ضمن باقة قنوات أوربت للمشتركين في خدماتها.
قشة قصمت ظهر البعير
مكّن ما حدث المؤسسة السعودية من وقف البث للعالم العربي على نحو متقطع، حتى أعلنت بي بي سي عن بث برنامج استقصائي مدبلج باللغة العربية عن حقوق الإنسان في المملكة. ليبدو القشة التي قصمت ظهر البعير. وتوقفت أوربت عن إعادة البث نهائيًا، وانقطعت العلاقة بين المؤسستين.
استمر فريق التليفزيون العربي في إنتاج برامج ونشرات لا يشاهدها أحد مدة يوم أو يومين للتأكيد على التزام المؤسسة ببنود التعاقد مع الشريك السعودي.
في أوربت كانت الصورة مختلفة وكان الرأي أن بي بي سي هي التي خرقت الاتفاق لعدم احترامها "الخصوصيات الثقافية للمملكة". لاحقًا ستتم تسوية ما بين المؤسستين. أما في ذلك الصباح فكل ما كنا نعرفه هو أن تليفزيون بي بي سي الأول مات قبل أن يكمل عامه الثاني، وأننا أصبحنا بلا عمل وفي انتظار مسؤول كبير أتى ليحدثنا عن المستقبل. مستقبلنا على الأرجح.
وصل بوب فيليس، نائب مدير بي بي سي العام جون برت، والمسؤول الأول في الجناح التجاري "BBC World Wide". تحلقنا حوله فبدأ اللقاء بكلمة قصيرة شابها الحماس، وامتلأت بتأكيدات لاستمرار بي بي سي في تحمل مسؤوليتها وإسهامها في البث العالمي، وأهمية ألا يستنتج المرء مما حدث أن ذلك انتقاص من مكانتها على الساحة العالمية.
استغربت الكلمة التي تجاهلت موضوعنا الأساسي، وربما كنت أول من طلبوا التعليق فقلت لبوب فيليس إنه ربما أخطأ جمهوره فنحن لسنا مسؤولين تنفيذيين في المؤسسة ولا يقلقنا دلالة ما حدث على خطط التوسع.
نحن مجموعة من الصحفيين، تصوروا أنهم سيلتحقون بمؤسسة مستقرة فترك بعضهم بلده ووظيفته وانتهي به الأمر عاطلًا عن العمل. تتابعت التعليقات التي لا أذكر أغلبها، باستثناء تعليقين متوترين لاثنين من الزملاء، ترك أحدهما بلده لأول مرة، ثم تزوج بعد انضمامه للقناة بأشهر، وهو لا يعرف الآن كيف سيتحمل تكاليف الانتقال من لندن عائدًا إلى وطنه. وتحدث الثاني بقلق عن زوجة حامل، وطفل منتظر وعائلة حائرة لا تعرف شكل المستقبل.
بي بي سي توقف بث "هنا لندن"
عندما أعلنت بي بي سي في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي قرارها بـإلغاء خدمة البث الإذاعي العربي الذي عرفه جمهور المنطقة أكثر من ثمانية عقود باسم "هنا لندن" تذكرت موقف غرفة الأخبار الذي مضى عليه نحو ربع قرن. عاد طوفان المشاعر القلقة الذي أحاط باجتماع بوب فيليس ليغمرني كلما هممت بالتعليق على الخبر.
تذكرت الوجوه الحائرة وشعرت أن أي حديث وقتها عن مستقبل الراديو، أو تطور وسائط البث، أو تغير أنماط استهلاك المعلومات، لن يقع موقعًا حسنًا على أسماع كثيرين قد يكونون من بين حوالي أربعمائة شخص تنتوي بي بي سي إلغاء وظائفهم. واحد من كل خمسة أشخاص تقريبًا سيصبح من دون عمل.
كانت إذاعة بي بي سي العربية واحدة من مسؤولياتي كرئيس للقسم العربي في بي بي سي، إلى أن تركت المؤسسة في عام 2010. وكان من حظي أن أشارك مع الزملاء في تحويلها إلى منظومة إعلامية متعددة المنصات والوسائط في أكبر حركة توسع يشهدها القسم. بدأت بانطلاق خدمات الإنترنت في عام 1999 والتوسع في الخدمات التفاعلية، حتى انطلاق التليفزيون العربي "الثاني" في عام 2008. وارتبطت بالإذٰاعة وجدانيًا منذ التحقت بالقسم. تعلمت فيها وأطلقت منها برامج: حكايات المقهى الإلكتروني، ونقطة حوار وغيرها.
منذ تأسيس القسم العربي في عام 1938 كانت الإذاعة هي الأساس، لذا فإن إنهاء خدمة البث الإذاعي ليس حدثًا عاديًا ويحتاج لوقفة أطول. احتل القسم العربي المكانة الأهم في بي بي سي، بعد القسم الإنجليزي، منذ البداية. كان أول أقسام اللغات في الخدمة العالمية (وتلاه في نهاية العام إطلاق الإذاعات الألمانية والفرنسية والإيطالية).
كان دائمًا القسم الأكبر وصاحب النصيب الأعظم من الميزانية وعدد العاملين. كان bbc.com/arabic أول مواقع المؤسسة الإخبارية على شبكة الإنترنت بعد الإنجليزية، وكان التلفزيون العربي أول محطة تنطلق من الخدمة العالمية، وبلغ من اهتمام المؤسسة به أنها اضطرت لـإغلاق عشرة أقسام أخرى، لتتمكن من توفير التمويل اللازم لإطلاقه.
كيف تمول بي بي سي خدماتها
لفهم أبعاد قرار إغلاق الإذاعة العربية، هي وأقسام أخرى، ينبغي العودة قليلًا إلى الوراء لفهم تاريخ تمويل القسم العالمي الذي كان منفصلًا عن تمويل باقي المؤسسة منذ البداية.
كانت ميزانية محطات اللغات الموجهة للخارج تأتي كمنحة برلمانية تديرها الخارجية البريطانية. أي أنها جزء من الموازنة العامة. في حين يأتي تمويل بي بي سي "الأم" الموجهة للجمهور البريطاني بشكل أساسي من "رخصة تلفزيون"، قيمتها اليوم 159 جنيهًا استرلينيًا ويفترض أن تزيد سنويا لمعادلة التضخم، يدفعها كل منزل في مقابل الحصول على خدمات بي بي سي بقنواتها المختلفة وخدماتها المتنوعة من أخبار ودراما ووثائقيات وغيرها كثير.
نظامان متباينان للتمويل يختلفان باختلاف الجمهور الذي تتوجه إليه الخدمة: الجمهور البريطاني المحلي له خدماته وقنواته، يحصل عليها مقابل مبلغ يرخص له خدمة إعلامية لا تتخللها إعلانات ولا تتأثر بالسوق والتجارة والتمويل الخارجي والرعاة. أما الجمهور العالمي بلغاته المختلفة فيحصل على خدماته بـتمويل من الموازنة العامة عن طريق منحة برلمانية تقتطع من الميزانية بغرض تقديم خدمة ترى بريطانيا أن حيادها ودقتها يخدمان صورتها أمام العالم ويشكل قوة ناعمة تعطيها مكانة خاصة على الساحة الدولية.
بدأ فصل التمويل بين المؤسستين منذ استن قانون لرخصة التليفزيون في عام 1946، حتى عام 2014، حين بدأ تطبيق قرار بـوقف تمويل الخدمة العالمية من الموازنة، على أن تتولى بي بي سي تغطية نفقات القسم العالمي من حصيلة رخصة التلفزيون التي تشكل نحو 75% من دخل المؤسسة البالغ خمسة مليارات جنية استرليني.
ورغم تواضع ميزانية القسم العالمي البالغة نحو 340 مليون جنيه استرليني إلى جوار هذا الرقم لكن القرار شكل عبئًا على بي بي سي التي تغلغل مفهوم الفصل بين مصادر التمويل فيها على مدى عقود، التي أطلقت خدمات القسم العالمي كنوع من التكليف من الحكومة في ظل أجواء الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى حقيقة أن دافعي الرخصة يتوقعون استثمارها في خدمات تقدم لهم مباشرة وليس لجمهور آخر.
لهذا السبب تفاوضت بي بي سي مع الحكومة وحصلت على دعم إضافي للقسم العالمي يقدر بنحو مئة مليون جنيه سنويًا، ومن حين لآخر تحصل على دفعات مالية للتوسع في تغطيات بعينها للقسم العالمي وهو ما حدث عندما دفعت الحكومة لبي بي سي مبلغ ثمانية ملايين دولار لدعم الخدمات الموجهة لروسيا وأوكرانيا.
تغيير مصادر تمويل الأقسام العالمية ليس إجراءً تقنيًا غير ذي دلالة أو تأثير، ويشكل عبئًا إضافيًا عليها وعلى المؤسسة الأم. لم يعد تقديم خدمة إعلامية موثوقة للعالم الخارجي هدفًا كافيًا في حد ذاته. منذ هذه اللحظة صار لزامًا على الخدمات العالمية أن تبرر وجودها لمستفيدين إضافيين Stake Holders: الجمهور البريطاني الذي يدفع ميزانيتها ضمن رخصة الاستخدام وباقي المؤسسة الأم التي تريد أن تحصل على فائدة ما من استقطاع جزء من ميزانيتها.
هناك حاجة إلى مبرر محلي، ومبرر داخلي، خاصة وأن المؤسسة تواجه معارضة كبيرة للاستمرار في الحصول على رخصة التليفزيون. صحيفة صنداي إكسبرس، نشرت منذ سنتين، نتيجة استطلاع يؤكد أن نحو 60% من البريطانيين يرغبون في إلغاء رخصة التليفزيون، وأن تبحث بي بي سي عن مصدر آخر لتمويلها.
قرار الحكومة بتجميد قيمة رخصة التليفزيون ووقف زيادة التضخم المعتادة في العامين المقبلين كان السبب المباشر في إغلاق الإذاعة العربية وغيرها من الخدمات إضافة لقرارات التسريح لمواجهة النقص المتوقع في الموارد، لكن التحدي الأكبر طويل المدى وبالغ الأثر سينتج عن التحول في مصادر التمويل الذي بدأ منذ سنوات، وصار على الخدمة العالمية بمقتضاه أن تضع أنظارها على أصحاب مصالح أقرب وأقوى من جمهورها المعتاد.
هل يمكن الجمع بين "جمهورين"؟
في أدبيات بي بي سي ورسائلها الداخلية بدأ يظهر تأكيد متزايد على أهمية "التعاون فيما يتعلق بجمع المحتوى وإنتاجه بما يساعد على سفره لمسافات أطول، خاصة في مجالات التحقيقات والوثائقيات".
الترجمة العملية لهذا الكلام تعني أن هناك ضرورة لأن تكون الخدمة العالمية بأقسام لغاتها المختلفة منتجة لمحتوى يمكن استخدامه في منصات ومحطات بي بي سي البريطانية. تتوجه بي بي سي بهذا الكلام لصاحب المصلحة المحلي وهو الجمهور البريطاني المتشكك في جدوى تمويل الخدمة العالمية من جيبه (بل ضمن الرخصة من الأساس)، وصاحب المصلحة الداخلي في المؤسسة المتشكك في جدوى اقتطاع ميزانيته لصالح قطاع لا يتعامل مع جمهور المؤسسة التقليدي.
من الآن فصاعدًا صار على منتجي البرامج ومسؤولي الخدمات المختلفة في بي بي سي العربية وغيرها من اللغات ألا يفكروا فحسب في جمهورهم بل عليهم أيضًا أن يدخلوا الجمهور البريطاني في حسبانهم، ومعهم أقسام بي سي الأخرى التي تتطلع إلى محتوى مختلف من ثقافات أخرى خلف الحدود.
لنفهم أهمية وخطورة هذه النقطة علينا أن نتخيل أن أحد منصات الخدمة العالمية، لتكن تلفزيون بي بي سي العربي، تعتزم إنتاج مجموعة من الأفلام الوثائقية أو البرامج المنوعة، وأن المسؤولين عن وحدة الإنتاج يفاضلون بين الأفكار التي سيتم تنفيذها. لن يصبح ارتباط الفكرة وقيمتها لجمهورها المستهدف في العالم العربي هو العنصر المرجح فحسب، ستكون قابلية الفكرة والمحتوى للاستخدام والتطويع والتدوير عاملًا مهمًا.
ولو افترضنا أن خبرة مشرف الإنتاج أو المسؤول الذي سيتخذ القرار بالجمهور البريطاني أعمق، أو أن رغبته في تأكيد التزامه بكل ما يقال عن ضرورة "التعاون" كبيرة، ستكون النتيجة برامج ووثائقيات عربية بحس ومذاق غريب أو بنظرة استشراقية. على المدى البعيد قد يتسبب هذا في تباعد بين بي بي سي العربية وجمهورها وستفقد المؤسسة علاقة وطيدة تشكلت عبر عقود من القرب والثقة.
علاقة مهددة ومنتجون حائرون
تغلغل مذيعو وصحفيو بي بي سي العربية في حس الملايين في مختلف أنحاء العالم العربي ببرامج لمست وجدانهم واقتربت من مشاعرهم وحافظت على لغتهم. كانت "هنا لندن" عربية أكثر من أغلب المحطات العربية، وغطت الأخبار التي تهم جماهير المنطقة بدقة واهتمام و"قرب" أكثر مما فعل إعلامهم. لو تحول ما يقدمونه إلى منتج ناطق بالعربية وبعيد عن مشاعر أهلها واهتماماتهم، أو عاجز عن التماهي معهم ومع طموحاتهم ستنفصم عرى هذه العلاقة التاريخية الوثيقة.
الوصول إلى صيغة توافقية للجمع بين اهتمامات جمهورين قد لا تكون مستحيلة إذا كان هناك إدراك واضح لأهمية الجمهور الأساسي وهو هنا الجمهور العربي. لكن المهمة تشكل تحديًا يتطلب حساسية تحريرية ووعيًا بالمخاطر المحيطة بفقدان التركيز على الهدف الأهم، وهو ما لا أشك في أن الأصدقاء والزملاء في المؤسسة على وعي ودراية به وأنهم سيجدون طريقهم عبر ذلك الدرب الوعر الذي سيصبح فيه الجمهور الثانوي أكثر قربًا وتأثيرًا من الجمهور الأصلي الأبعد.
يقيني بهذا لا يقل عن يقيني بأن من سيغادر المؤسسة بحسب خطة التسريح المعلنة، سيجد ترحيبًا بين كثير من مؤسسات العالم العربي التي قام أنجح محطاتها على أكتاف من غادروا تليفزيون بي بي سي العربي الأول. ويكفي هنا أن أذكر أن الزميلين اللذين ذكرتهما في سياق حديثي عن اجتماع بوب فيليس مع صحفيي بي بي سي، كان لهما شأن كبير في الإعلام بعد ذلك. الأول صار من كبار مديري غرف الأخبار وكان له دور محوري في عدد من المؤسسات العربية والعالمية. والثاني أصبح ضيفًا معروفًا على الفضائيات كخبير استراتيجي مسؤول عن دورية متخصصة تتسابق الهيئات الدبلوماسية للاشتراك فيها.
أما بوب فيليس نفسه، فترك بي بي سي بعد إغلاق تليفزيون بي بي سي العربي الأول بسنة واحدة ليصبح الرئيس التنفيذي لمجموعة الجارديان ميديا جروب. وفي عام 2004 جرى تكريمه بلقب سير بسبب إسهاماته في الحياة العامة وتفانيه في خدمة بريطانيا.