صارت صيغ الحوارات الوطنية، واللقاءات السياسية المصرية، وكأنها محاكاة للديوانية والمجالس الأميرية الخليجية. شهدنا طقوسًا لم تعرفها الجمهورية المصرية، كتلك اللقاءات التي يقابل فيها الرئيس فئات بسيطة من المجتمع ويتناول الغذاء معهم، ويحدثهم عن الحب والأخلاق ووصايا الوالدين. انسحبت تلك الممارسات السياسية القبلية على طقوس التمثيل السياسي.
فسابقًا، كان لدى الرئيس تنظيم أو حزب سياسي يمثله، وبذلك كانت الحوارات الوطنية، ولو صوريًا، كأنها حوار أنداد. أما في غياب التنظيم أو الحزب السياسي، فالحوار الوطني يبدو بالتعبير الخليجي "سوالف" بين جماعات وأفراد مهتمين بالعمل السياسي تحت رعاية المؤسسة الرئاسية بمنطق المنح الملكية. حتى جلسات البرلمان والمؤسسات على اختلافاتها لم تعد لها فاعلية، وأصبحت جهات استشارية دورها التصديق على القرارات.
ينسحب هذا على مجمل أنظمة العمل الإداري الحكومية التي سعت لمحاكاة النموذج الخليجي، من القوانين التي تُنقل عن تشريعات خليجية، وحتى وزارة السعادة الإماراتية التي صارت هيئة نشر الطاقة الإيجابية المصرية. ويكفي لتدشين هذا العهد الجديد أن العاصمة الإدارية، أضخم مشروع قومي مصري معاصر، يُروج لها بمنطق وعبارة "كأنك عايش في دبي".
عقد خليجي
نعيش العقد الخليجي، الذي سيتسمر لعقود مقبلة، فالريادة الاقتصادية والسياسية الخليجية تشكل عالمنا اليوم، ليس في مصر والشرق الأوسط فقط، بل في كوكبنا الذي يتجه بسرعة نحو نهايته بفضل البترول والغاز الخليجي والذي يغذي في الوقت نفسه وحش الاستبداد والفاشية اليمينة في العالم، رافعًا درجة حرارة الكوكب إلى حدود الالتهابات والتسلخات، وذوبان ثلج القطبين، وارتفاع منسوب المياه، وغيرها من الكوارث المناخية القادمة لا محالة.
تحت احتفالات كأس العالم وأطول برج سكني وأطول مدينة مستقبلية وأكبر حفل موسيقي، أسفل كل هذه البهرجة التي تسعي إلى إبهار العالم وتغيير الصورة النمطية عن سكان الخليج، هناك مشروع سياسي. مشروع تائه وملتف حول نفسه، لكنَّ سماته، كما يرددها المحللون وأساتذة العلوم السياسية الخليجيون المقربون من القيادات الحاكمة، أن الدول القومية والأنظمة الجمهورية التي ظهرت في المنطقة بعد الاستقلال ورفعت شعارات الحرية والكرامة والمشروع الوطني والتحرري وتمثيل الإرادة الشعبية، ليست إلا مجموعة من الأكاذيب والخطب الرنانة.
انتهت جميع هذه التجارب إلى التحلل والتفكك، أو التحول إلى أنظمة إجرام متكامل بلا قدرة حتى على توفير أبسط شروط الحياة الإنسانية لشعوبها، بل تقتل هذه الشعوب بكل الأسلحة المباحة والمجرمة. حتى تلك التي تمكنت من الطفو، تعاني من ترهل الجهاز الإداري، ورقود الطموح، وتحلل الطاقة في دوائر البيروقراطية الإدارية.
بينما نجحت الدول الخليجية في تقديم نموذج آخر، يخاصم تصورات العلوم السياسية الحديثة من عقد جان جاك روسو الاجتماعي، حتى مجتمع كارل بوبر المفتوح. ويقدم نموذج القبيلة، وروابط الدم والعائلة، كأساس واحد ووحيد لشرط المواطنة، ولبنة للمجتمع والدولة الحديثة. لا نقابات مهنية، لا اتحادات فنية، لا مؤسسات مجتمع مدني خارج الخط القبلي الحكومي. بل ثقة كاملة متكاملة في قوانين الانتخاب الطبيعي، وقدرة الجينات البشرية على اختيار الأفضل.
الفراغ العقلي والخواء العاطفي الحاكم لشخصية الزومبي لم يكن ليقود أو ينقلب أو يحكم إلا بدعم كامل متكامل
زومبي الجمهورية
لا تدور مصر فقط في مدار الطاقة الخليجية، بل تقع تحت تأثيرها السياسي. فمنذ 2016 والتوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود التي نقلت السيادة على تيران وصنافير إلى السعودية، بدا واضحًا حدوث تغير في مشروع الجمهورية الوطنية التي قامت على الاستقلال والسيادة الوطنية، فتركت لنا جثة حية؛ زومبي الجمهورية.
هذا الزومبي، وإن كان مخيفًا، وإن كان قادرًا على سجن الآخرين وتعذيبهم ونفيهم وقتلهم والتهامهم أحياء أمام الشاشات، لكنه مثل كل زومبي تحركه غرائز بدائية كشهوة الانتقام والجوع والخوف. قدراته العقلية وخياله المحدود لا يمكن أن يقوده إلى أفكار أبعد من بناء مدن مسورة ليحمى نفسه، وتعذيب الذين سخروا منه حين كان يجري في الشوارع بالفانلات الداخلية وينكر أنه زومبي أو رجل شرطة.
لذا، فهذا الفراغ العقلي والخواء العاطفي الحاكم لشخصية الزومبي لم يكن ليقود أو ينقلب أو يحكم، إلا بدعم كامل متكامل، وكلنا نعرف من أين أتى الدعم، واستمر حتى الآن.
تؤكد على هذا بيانات صندوق النقد الدولى الأخيرة، فكل بيان أصبح ينص بوضوح على التزام ما يسميه "الشركاء الإقليميين" بمراقبة مدى التزام الدولة ببرامج الصندوق وشروط قروضها. تدنى السقف حتى صار أقصى طموحنا أن يلتزم الزومبي بما يقوله الصندوق ويطلبه منه الشركاء الإقليميون. لا أحد في مصر، اللهم إلا مجموعة في الثلاجة الناصرية، لديه أى اعتراض على "انتهاك السيادة الوطنية"، بل الجميع مرحب بانتهاك وهم السيادة الوطنية، كوسيلة لإيقاف شراسة الزومبي وما يفعله في الأرض والأجساد والعقول.
يكتمل كل ما سبق، بما أصبح واضحًا في الشهور الأخيرة، فلم تعد المحاكم والقضاء حصنَ الدفاع عن الفقراء أو الأغنياء. شهدنا مثلًا كيف قُبض على واحد من أغنى أغنياء مصر وابنه، وألقي الاثنان في السجن بلا محاكمة ولا تحقيقات حقيقية لسنوات، لأنهم رفضوا بيع شركتهم المسجلة خارج البلد. ولم يخرجوا إلا بعد شروط وضعها الصندوق الدولي وضغوط "من الشركاء الإقليميين" بضرورة الإفراج عنهم لتشجيع عودة القطاع الخاص.
إن ما يطلق عليه حتى طبقة وسطى في مصر، أو رجال أعمال وأغنياء مصريين، بنوا ثرواتهم عبر العمل لسنوات في الخليج ومشاركة رؤوس أموال خليجية. حتى صاحبنا وابنه من منتجي الألبان، بنوا امبراطوريتهم "الوطنية" بشراكة مع رأس مال خليجى. فسواء كنت داخل دائرة السلطة/ الزومبي أو خارجها، فللثروة في المنطقة منبعها معظم الوقت: البترول والغاز.
ما يتوجب فعله
يدرك الجميع أن بلدنا في أزمة كبيرة، تتجاوز الديون والضغوط الاقتصادية إلى ما هو أبعد. فالمؤسسات فقدت مصداقيتها، والشبكات الاجتماعية تتآكل، والمجتمع يرتد إلى أفراد في جزر منعزلة في حالة صراع. وهذا الصراع الذي يديره الزومبي بمنطق "إدارة التوحش" معرض في أي لحظة للانفجار. وفي هذه الحالة لن تتوقف تبعاته عند الحدود المصرية، بل ستصل وتؤثر على الشركاء الخليجيين كذلك.
ويدرك الجميع، بمن فيهم السلطة والشركاء الإقليميون، أن الخطوة الأولى للخروج من الأزمة هي الحوار، أن "نسولِف" مع بعضنا البعض. ولا أرى سبيلًا لهذا الأمر إلا نزع غشاوة الأكاذيب ورؤية الأمور على حقيقتها، ودمج الشركاء الحقيقيين في ذلك الحوار.
تحول الحوار الوطني في نسخته الحالية لحلبة صراع على الفتات من نخبة سياسية تمارس وهم السياسة تحت ضغط الخوف والرقابة. وبدلًا من أن يكون حوارًا أصبح منصة لطلب الشفاعة وتدبيج العرائض للإفراج عن المعتقلين، أو إدخال الدواء للمرضى في السجون. لكن لماذا تُرفع مثل تلك العرائض للزومبي؟
لماذا لم يُضم "الشركاء" الجدد لمصر، وأصحاب السلطة الحقيقية إلى الحوار الوطني؟ وهل سيكون للشركاء الجدد في المستقبل رأي أو دور في القضايا الوطنية مثل قوائم العفو والحوار الوطني وغيرها من القضايا؟
ما قبل الحوار أيضًا يتطلب مسؤولية أخلاقية من بعض النخب السياسية والثقافية المصرية، تقتضي الخروج من ثوب العداء التاريخي والأيديولوجي المسيطر على رؤيتها لتلك الأنظمة أو شعوبها. وأن نتذكر، ونذكر بعضنا، بضعف موقفنا في مواجهة السلطة التي لا حدود لقدرتها، وقادرة على تجاوز كل الأعراف الدولية دون محاسبة، وتذكر أن الغلطة مع تلك الأنظمة بفورة ومنشار.
يجب أن ننسى تقاليد السياسة الحديثة وما نعرفه عن نظرياتها، فليس لدى ماركس أو علم السياسة الحديث ما يمكن أن يبرر إنفاق بلد 200 مليار دولار لكي "تبهر العالم" أو "تشرف العرب". التعامل والحوار مع الشركاء الإقليميين والملاك الجدد يتطلب العودة إلى التراث، والسباحة في التقاليد القديمة لشعرة معاوية، وسيف علي، وحذاء الحجاج.
لنتوقف عن مخاطبة الزومبي، أو انتظار أي سمنة من فخذ النملة، ولنتوجه بدعوات الحوار والالتماسات، وأي أفق لمناورات سياسية إلى أصحاب الجلالة والفخامة، أو الشباب الذي تربى في الكمباوندات وبين المنتجعات السياحية في بالي وإبيزا، وحاليًا يعمل في البنك الدولي، ويقرر حاضر ومستقبل 100 مليون.