قبل أيام نشر موقع حزب الحرية والعدالة، التابع لجماعة الإخوان، مقالًا بعنوان "مظاهرات 11/11 ودروس ثورة يناير.. محاولة للفهم والتعلم"، يتنبأ بما يمكن أن تحمله الأيام القادمة على ضوء الدعوة للتظاهر التي يتم الترويج لها على السوشيال ميديا، تزامنًا مع افتتاح مؤتمر قمة المناخ COP27 في شرم الشيخ، واستغلالًا للأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار الذي تعاني منه مصر منذ اندلاع حرب روسيا وأوكرانيا.
التنبؤ الذي خلص له المقال التحليلي، الذي لم يُنشر في باب الرأي ولم يحمل اسم كاتب، بل فريق التحرير، أنه لا يمكن التنبؤ بشيء، مع محاولة الإمساك بالعصا من المنتصف من دعوة التظاهر نفسها التي لم يتبنوها رسميًا، لكنهم أبدوا كل التعاطف معها بزعم أنه حتى لو لم يحدث شيء يومها، فالحراك قادم لا محالة في أي يوم آخر.
ويذهب المقال إلى نسبية التوقع قبل حرمانيته "توقع استجابة حاشدة لأي دعوة تظاهر هو محل شك كبير في ظل الأوضاع الراهنة.. ورغم ذلك فإن هذا التوقع ليس مطلقًا بل هو نسبي، وتوقع عدم الاستجابة الشعبية هو أمر مرجح ولكنه ليس مستبعدًا" ثم يستدرك "إلا أن التنبؤ بما يمكن أن يحدث بشكل مطلق غير منطقي ويتصادم حتى مع العقائد والأفكار الإسلامية".
ويقلل المقال من أهمية المظاهرات الشعبية بمفردها من أجل تحقيق "التغيير المنشود"، وهو الإطاحة بالرئيس شخصيًا أولًا وقبل كل شيء، وليس بالضرورة النظام بأكمله. فالثأر مع الرئيس شخصي جدًا بحكم أن الرئيس الأسبق المرحوم محمد مرسي هو من قام بتعيينه في منصب وزير الدفاع، ليقوم السيسي لاحقًا بعزله في 3 يوليو/تموز 2013 ثم محاكمته، نهاية بوفاته في محبسه.
ويؤكد المقال أن مظاهرات 25 يناير 2011 بمفردها، رغم مشاركة الملايين، لم تكن لتكفي للإطاحة بالرئيس المخلوع مبارك. وأنه لولا تأييد الجيش بسبب عدم رضا قادته عن مشروع التوريث، ولولا الدعم الأمريكي متمثلًا في الرئيس الشاب باراك أوباما وإدارته آنذاك، لربما اتخذت الثورة منحى آخر، ولم يكن سيكتب لها النجاح خلال ثمانية عشر يومًا فقط.
ويقول المقال إن الحشد الشعبي الآن صعب فقط بسبب القبضة الأمنية القوية وغياب القيادة أو "الطليعة الثورية" التي يمكن لها قيادة الحراك الشعبي، وذلك في إطار رؤيتهم أن تلك "الطليعة" لا تتمثل سوى في أنفسهم، بينما هم الآن يعانون السجن أو النفي.
من يرغبون في خداع أنفسهم هم من يرفضون الإقرار بأن قطاعًا معتبرًا من الشعب المصري بات يخشى المظاهرات والاحتجاجات خوفًا من المجهول
ولا يضع المقال في الاعتبار أن قطاعًا واسعًا من الشعب لا يدعم التظاهرات أو الدعوة للإطاحة بالنظام من الأساس، حتى ولو كان يعارض الرئيس عبد الفتاح السيسي وسياساته.
وخارج إطار المعارضة غير المنتمية لتيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان، فإن من يرغبون في خداع أنفسهم فقط هم من يرفضون الإقرار بحقيقة أن قطاعًا معتبرًا من الشعب المصري بات يخشى المظاهرات والاحتجاجات خوفًا من المجهول، ولأنها ستؤدي من وجهة نظرهم إلى الفوضى والمزيد من الأزمات الاقتصادية الطاحنة.
كما أن الوضع المنهار في عدة دول عربية مجاورة، مثل ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن ولبنان، ونهاية الحكومات المركزية القوية التي تحافظ على وحدة أراضي تلك الدول عمليًا، مبرر آخر لخوف الكثير من المصريين من العودة لمرحلة المظاهرات والاضطرابات.
ولا يحتاج المشاهد المصري إلى دعاية مكثفة من قبل النظام لتأكيد أن مشاكل التضخم وغلاء الأسعار "عالمية"، فتكفيه متابعة أنباء التظاهرات والاحتجاجات التي تضرب كل الدول الأوروبية الرئيسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا للتيقن من ذلك.
كما أن لدينا في مصر تراث طويل من التمسك بقاعدة "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش"، إلى جانب قناعة ازدادت رسوخًا لدى العقلاء بعد تجربتي ثورة 25 يناير، و30 يونيو، أنه لم يعد من الصواب الاندفاع وراء الغضب أو الثأر الشخصي للمطالبة بتحركات شعبية غير مضمونة العواقب، من دون معرفة ما هو قادم، أو البديل لما هو قائم.
فما هو على المحك هنا ليس مصالح ضيقة لأحزاب معارضة أو شخصيات بعينها، بل مصالح ما يزيد عن مائة مليون مصري تزداد أوضاعهم الاقتصادية صعوبة يومًا بعد يوم.
أما المؤسسة العسكرية التي انحازت لثورة الشعب في يناير 2011، فيفسر موقع الحرية والعدالة موقفها بأنه "رأت المؤسسة العسكرية (في 25 يناير) أن مصالحها مع مبارك باتت في خطر فتمت التضحية به من أجل حماية مصالح المؤسسة في إطار مخطط استهدف الإطاحة بالرأس (مبارك) من أجل إنقاذ الجسد (النظام) لحين رسم خطط ومسار يُفضي إلى صناعة رأس جديد من داخل النظام نفسه".
وفي الوقت الذي تمتلئ فيه المواقع الإخوانية بالتقارير العبثية حول خلافات في المؤسسة العسكرية بشأن دعم الرئيس، فإن فريق التحرير في موقع الحرية والعدالة لا يحمل الكثير من الود لوزير الدفاع الحالي الذي لا تقل رغبتهم في الثأر منه عن تلك الكامنة نحو الرئيس، بحكم أن الفريق محمد زكي كان يشغل منصب قائد الحرس الجمهوري في 3 يوليو، وهو الذي اصطحب الرئيس مرسي من قصر الرئاسة إلى مكان احتجازه.
ورغم الإقرار بأن كافة المؤشرات الحالية تفيد باستمرار الدعم القوي لقيادة الجيش للرئيس السيسي، لا يريد موقع الحرية والعدالة إغلاق الباب تمامًا أمام ذلك الاحتمال، والقول إن "النظام" في النهاية سينحاز لمصالحه في حال خروج المصريين للمطالبة برحيل الرئيس الحالي.
جزء كبير من مشكلة الإخوان أنهم يتعاملون أن للمصريين ذاكرة السمكة، وأنهم سريعًا ما سينسون أن الإخوان، وكما كانوا آخر من دخل ميدان التحرير في ثورة يناير، كان قادتهم أول من خرجوا منه لإجراء مفاوضات سرية مع قادة الجيش لترتيب الأوضاع لصالحهم.
كما يظنون أن المصريون سينسون مظاهرات دعم الإخوان للقوات المسلحة وشعارهم "يا مشير أنت الأمير" والحديث عن "رجال من ذهب" في القوات المسلحة.
وفيما يتعلق بالضلع الثالث لنجاح أي حراك شعبي، وهو موقف الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، يزعم موقع الحرية والعدالة أن تلك الدول راضية الآن عن أداء الرئيس السيسي ومن المستبعد أن تدعم رحيله.
ورغم أن الكثير من كبار المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن سبق أن شغلوا مناصب هامة في إدارة أوباما التي دعمت الإخوان في عامهم القصير في الحكم، كما قامت الإدارة الحالية باقتطاع جزء من المعونة العسكرية لمصر عامين متتاليين بسبب عدم الرضا عن سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، فإن لزوم الاستهلاك المحلي تدفع الإخوان إلى مهاجمة واشنطن والدول الغربية لكي لا يتهمهم أحد بالاعتماد على تلك الدول لتحقيق أهدافهم.
ومن المفترض هنا أيضًا أن يكون المصريون نسوا تحذيرات قادة الإخوان قبل 30 يونيو من أن إدارة أوباما لن تسمح بالتخلص من الإخوان، أو تهليل المعتصمين في ميدان رابعة وتكبيرهم عندما أذاع أحد قادتهم نبأً مزيفًا مفاده أن الأسطول الأمريكي السادس يقترب من السواحل المصرية من أجل "استعادة الشرعية" وتحرير مرسي وإعادته للقصر الجمهوري. لم تمض مائة عام على اعتصام رابعة وأحداث 2013، فقط تسعة. فكيف ننسى؟
يعكس مقال الحرية والعدالة التخبط الواضح وحالة الضعف الشديد التي وصلت لها الجماعة، فهي لا تستطيع التنبؤ بأي شيء مع إبقاء الاحتمالات مفتوحة لكل شئ، مع إنكار فاضح لدور ها في إجهاض ثورة 25 يناير ودفع قطاع واسع من الشعب إلى التخوف من أي تغيير.
كما يجب أن تتوخى الأجهزة الأمنية الحذر، وألا تساعد جماعة الإخوان في نشر حالة القلق والتخويف غير المبرر عن طريق التوسع في اعتقال المواطنين لمجرد الاشتباه، بزعم إجهاض أي محاولة للتظاهر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني.
ربما يكون إبداء المزيد من الثقة في النفس ودعم الإصلاح السياسي وحرية الرأي والتعبير وخروج كل المحبوسين على ذمة قضايا الرأي وتخفيف القبضة المفروضة على وسائل الإعلام العامة والخاصة ردًا أكثر قوة على شائعات وتحريض الإخوان الذي يضعون مصلحة الجماعة قبل مصلحة الوطن.