كتب أستاذي المهندس يحيى حسين عبد الهادي مؤخرًا تعليقًا على صفحته في فيسبوك عنوانه "بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان". وكان خطابه موجهًا في الأساس إلى الحركة المدنية الديمقراطية، مطالبًا إياها بتبني المطالبة بـ "الإفراج عن كل مَن أُدينوا أو حُبِسوا بواسطة نيابات ومحاكم أمن الدولة من 2013 حتى الآن" على اعتبار أن ذلك هو الموقف الأخلاقي المبدئي السليم الذي يُرضي ضميره، بدلًا من الاكتفاء بالتركيز على أسماء السجناء من التيار المدني الواسع من غير المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين.
علاقتي بالمهندس يحيى متعددة الوجوه منذ سنوات، بداية بمعرفته كشخصية عامة اتخذت موقفًا صلبًا ضد هدر المال العام، وتمكنه من وقف صفقة بيع "عمر أفندي" بسعر غير عادل في زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك، ثم من خلال استضافته الكريمة لكل القوى السياسية والأحزاب والحركات التي تشكلت أعقاب ثورة 25 يناير، عندما كان يتولى منصب مدير معهد إعداد القادة بالعجوزة، مرورًا بالعمل معًا في الحركة المدنية الديمقراطية عندما اُختير كأول متحدث رسمي باسمها بعد تشكيلها نهاية العام 2017، ونهاية بتعرض كلانا لتجربة الحبس الاحتياطي المريرة، وإن كانت فترة سجنه استمرت نحو ثلاث سنوات ونصف تحملها بكل جلَد وشموخ، بينما اكتفت السلطات بحبسي 19 شهرًا.
كل ذلك يجعل مهمتي صعبة في رفض ما ذهب إليه المهندس يحيى في تعليقه الأخير الذي طالب فيه الحركة المدنية بالضغط للإفراج عن "أسماء كمحمد بديع وخيرت الشاطر وسعد الكتاتني ومحمد البلتاجي، وغيرهم،" واضعًا ذلك المطلب في إطار المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي فولتير "قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعدادٍ لأن أموت دفاعًا عن رأيك" والتأكيد على أن "الدفاع عن حقوق المختلفين معنا فريضة واجبة".
يعرف القاصي والداني أن الديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الإنسان ليست من أولويات أو أدبيات الجماعة
ورغم أن المهندس يحيى نفسه أورد بعض الحجج المنطقية التي تبرر رفض ذلك المقترح من قبيل أن "للإخوان تفاهماتهم وصفقاتهم الانفرادية مع النظام كشأنهم دائمًا" وأنه "لو تبادلنا المواقع ما كانوا سيهتمون بأمرنا"، مشيرًا إلى أنه يجب ألا يتنافس الفرقاء في "النذالة"، فإن أكثر ما أثار دهشتي في تعليقه هو أنه وجه خطابه للحركة المدنية فقط، وكأن جماعة الإخوان لم تكن طرفًا فاعلًا في كل ما مررنا به منذ 2011، وتتحمل النصيب الأكبر فيما وصلنا إليه.
وإذا كانت الحركة المدنية، بما تضمه من أحزاب متفاوتة في انتماءاتها من اليسار إلى اليمين، مطالبة بتجاوز دورها كتكتل سياسي ونسيان الماضي، ونسيان كيف تخلت قيادة الجماعة عن كل الوعود التي قدموها للقوى السياسية التي شاركت في ثورة 25 يناير ودفعت البلاد عمليًا إلى شفا الحرب الأهلية والطائفية، فما هو المطلوب من قيادة الجماعة لتساهم في الوصول إلى تلك النقطة التي تصبح معها المطالبة بإطلاق سراح قياداتها أمرًا مفهومًا؟
أتفهم جيدًا، ودفعت ثمن انقلاب السلطة الحالية على الجميع، بما في ذلك القوى المدنية التي شكلت جبهة الإنقاذ الوطني وتصدرت مشهد معارضة جماعة الإخوان. وعندما كنت في السجن، كنت أسمع من بعض الزملاء أن الوضع الذي نمر به يتطلب إعادة النظر في العلاقة مع جماعة الإخوان، بزعم أن الخلاف الآن ليس معهم بل مع النظام الحالي الذي حبسنا جميعًا، واتهمنا بـ"مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها مع العلم بأغراضها" تلك التهمة التي كانت تصيبني بمرارة كبيرة كلما رددها أمامي وكلاء النيابة والقضاة.
وكان هذا الرأي يفزعني، ليس لعداء دفين ضد جماعة الإخوان وقادتها وأعضائها. ولكن ما كنت أرفضه هو ألا نتعلم شيئًا من دروس الماضي القريب جدًا، وأن نعود للحديث عن جماعة الإخوان كحليف محتمل لبناء الدولة المدنية الديمقراطية كما كنا نتطلع ونأمل في أعقاب ثورة 25 يناير.
لن أقول إن ما طرحه أستاذي يحيى أمر شديد المثالية لا صلة له بالواقع الذي عشناه منذ 3 يوليو/تموز 2013. ولكن المطالبة هكذا بالمطلق بإخلاء سبيل كل من أدانتهم محاكم أمن الدولة العليا طوارئ، بمن فيهم من ثبت تورطهم مباشرة في جرائم قتل وتفجير، هو أمر صعب القبول في أي دولة تدعي سيادة القانون.
لا يراودني أي شك أن كثيرين تعرضوا للظلم، وقابلت وسمعت عن العشرات من تلك الحالات في تجربة سجني، تمامًا كما أستاذي يحيى حسين بكل سمو أخلاقه ومبادئه وضميره الحي. ولكن الانتقال من تلك النقطة إلى اعتبار أن كل المحبوسين من جماعة الإخوان مظاليم أبرياء يستحقون الإفراج الفوري، هو أمر يخالف القانون وحقوق الضحايا.
وفي المقابل، فالأمر لا يتعلق بالتاريخ فحسب، بل بالمشروع، أو "الخيار الثالث" الذي يمكن أن تقدمه القوى المدنية المتمسكة بأهداف ثورة 25 يناير مقابل مشروع جماعة الإخوان القائم على الدولة الدينية، وواقع الدولة السلطوية التي تدور حول شخص الرئيس والتي عهدناها منذ 1952، والواقع الجديد الذي نسعى لبنائه بعد كل ما مررنا به من تجارب، ليس فقط منذ ثورة يناير، ولكن منذ نشأة جماعة الإخوان قبل نحو مئة عام.
يعرف القاصي والداني أن الديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الإنسان ليست من أولويات أو أدبيات الجماعة، وأن لهم مشروعهم الخاص القائم على بناء دولة دينية يحتكرون فيها هم فقط تفسير النصوص والتشريعات.
هذا شأنهم، ولكن المفترض أن يكون لدى القوى والأحزاب المدنية مشروعها الخاص المقابل، الذي يقوم بالفعل على ترسيخ مفاهم الديمقراطية وتداول السلطة والعدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق المرأة والأقليات وحرية الرأي والتعبير.
كما أن الجماعة تمتعت منذ نشأتها بوضع خاص جعلها تتصرف على أساس أنها فوق كل الأحزاب وأشكال التجمع السياسي التي يسمح بها القانون، وذلك لأنها ألصقت اسم "المسلمين" بالجماعة وتصرفت على اعتبار أنها تدافع عن الإسلام وليست أفكارًا سياسية خاضعة للنقاش والخلاف.
نعارض النظام الحالي ونتمنى لو كانت هناك إمكانية للتغيير عبر انتخابات حرة ونزيهة
فهل ستقبل جماعة الإخوان تفكيك تنظيميها السري والدولي، والتحول إلى حزب سياسي مماثل لكل الأحزاب على الساحة التي تخضع ميزانيتها لمراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات، من دون مكتب إرشاد يُنتخب عن طريق "البيعة" في المقابر، وإقصاء لـ"الأخوات" من الحق في الترشّح وتولي المناصب في ظل رؤيتهم السلفية لمكانة المرأة في المجتمع؟
هل ستتوقف قياداتها عن تلقي التبرعات السخية من داخل مصر وخارجها دون إخطار أي جهات رسمية، وهو ما يضعها في موقع يفوق في قوته كل الأحزاب المدنية القائمة على الساحة السياسية؟ هل سينتهي ذلك التقسيم العجيب بين جماعة "دعوية" وأخرى سياسية؟
وفي السياق نفسه، فإن أحد المطالب الأساسية لكل الأطراف المنضوية تحت إطار الحركة المدنية هو سيادة القانون، والحق في محاكمة عادلة وعاجلة، وضرورة تعديل قانون الحبس الاحتياطي الذي تحول لأداة طيعة لقمع كل المعارضين.
ولو تحقق ذلك، فإن الآلاف من المحتجزين الآن بموجب قانون الحبس الاحتياطي الحالي من دون محاكمة لسنوات سيستعيدون حريتهم، بغض النظر عن انتماءهم السياسي.
نعم تضع الحركة المدنية مطلب إطلاق سراح سجنائها على رأس قائمة مطالبها، وذلك بالتأكيد حقها، مستفيدين ومذكرين دائمًا أن وأد كل أشكال المعارضة، بما في ذلك من كانوا حلفاء في التغيير الذي شهدناه بعد 30 يونيو، سيغلق الباب أمام كل فرص التغيير السلمي، ولا يدعم إلا توجهات من يدفعون نحو الفوضى والصدام.
نعارض النظام الحالي ونتمنى لو كانت هناك إمكانية للتغيير عبر انتخابات حرة ونزيهة. ولكن أستاذي المهندس يحيى على يقين أن ذلك الموقف يختلف تمامًا عن الخطاب الرسمي لقادة جماعة الإخوان المتمسكين بوصف 30 يونيو و3 يوليو بـ"الانقلاب"، والذين اتخذ عداؤهم للنظام الحالي بعدًا شخصيًا لا يضع في الاعتبار مطلقًا مصالح الوطن وما يزيد عن مئة مليون مصري ستزداد أوضاعهم صعوبة وبؤسًا، لو سادت الفوضى بسبب الرغبة في تصفية الحسابات مع النظام الحالي. الأمر أعقد بكثير من شعارات فولتير وكل فلاسفة الليبرالية وحقوق الإنسان.