إذًا، مرّ يوم الجمعة 11/11 بسلام فاق كل التوقعات. لكن هذا لا يعني نهاية الحكاية، ولا شك أن هناك دروسًا مستفادة بعيدًا عن شماتة أنصار النظام وتهليلهم، أو حسرة وغضب أصحاب الدعوة الذي بلغ ببعضهم حد سبَّ الشعب، وقول إنه يستحق ما يحدث له وإنهم سيخرجون للاحتجاج "غصب عنهم" عاجلًا أو آجلًا.
كان الجميع متحفزًا للغاية. وبصفتي من المحسوبين على المعارضة، كان السؤال الرئيسي الذي واجهني مع كل من التقيهم في الأيام التي سبقت 11/11 ، بما في ذلك مسؤولين ونواب برلمان ومواطنين عاديين، عن توقعاتي لذلك اليوم، "تفتكر فعلًا حيحصل حاجة؟".
كنت ابتسم حين ألمح نظرة الشك في من يطرح السؤال على اعتبار أنني من مثيري الشغب ولدي الخطة الكاملة للتجمعات المفترضة في ذلك اليوم، أو ربما ناقم بدوري لتعرضي للحبس الاحتياطي لفترة قاربت عامين. وكان ردي "غالبًا لا"، ولو حدث فستكون تجمعات محدودة من أنصار جماعة الإخوان في شوارع وأزقة خلفية من أجل تصوير فيديو قصير يرسلونه لمعتز مطر ومحمد ناصر ومحمد علي وقنوات تركيا، ثم يهربون سريعًا قبل وصول قوات الأمن.
حذرني مقربون من التقليل من احتمال تفجر الأوضاع، مشيرين إلى حجم الغضب الشعبي من موجة الغلاء المتصاعدة. ونصحوني بالتزام الصمت لكي لا يبدو أنني أقف ضد حق المواطنين في التعبير عن ضيقهم من ظروف المعيشة شديدة الصعوبة، مع توقع المزيد من التدهور في أعقاب قرارات التعويم الأخيرة في بلد يستورد من الخارج تقريبًا كلُّ شيء من مواد أساسية وغير أساسية.
أدرك تمامًا حجم الغضب من الظروف الاقتصادية الصعبة التي ازدادت سوءًا في السنوات الثلاثة الأخيرة بعد وباء كورونا ثم غزو روسيا لأوكرانيا. لكن رهاني كان على وعي الشعب، وهو الذي أبهرني في أيام ثورة يناير.
بعد الانهيار الكامل لأجهزة وزارة الداخلية المختلفة في 28يناير 2011، لم يكن هناك عمليًا ما يمنع غالبية فقراء مصر من تدمير البلد بأكملها، وهجوم سكان العشوائيات وعزب الصفيح على الكومباوندات التي لا تبعد عنهم كثيرًا حيث الفيلات الفاخرة وملاعب الجولف وحمامات السباحة. لكن ما حدث كان العكس تمامًا. تشكلت لجان شعبية لحماية المناطق السكنية، وشعر المصريون بحرية لم يتمتعوا بها طوال العقود الماضية.
بالتأكيد وقعت أعمال محدودة للنهب، وأُحرقت بعض أقسام الشرطة. لكن ما حدث من تجاوزات كان أقل بكثير مما كان يمكن وقوعه في ضوء الغياب الكامل لكل الأجهزة الأمنية. كانت هذه ترجمة عملية ليس فقط لوعي الشعب، بل أيضًا حبه وخوفه على بلده.
اليوم، لا شك أن قطاعات واسعة من الشعب، وغالبيته من محدودي الدخل والفقراء، غاضبة، ولم يعودوا قادرين على التحمل. لكن من ضمن الدروس المستفادة من مرور 11/11 بسلام أن مياهًا كثيرة قد جرت منذ ثورة يناير، و30 يونيو 2013، وأن المواطنين لن يستجيبوا بسهولة لدعوات التظاهر ما لم يكن هناك إدراك واضح ولو نسبي للبديل، أو الهدف من التظاهر من الأساس، خاصة إذا كان من يروجون لهذه الدعوة من أنصار الإخوان وأبواقها خارج مصر.
وكنت كتبت هنا مقالًا قبل أسابيع تناولت فيه دراسة لجامعة هارفارد الأمريكية حول تراجع تأثير الاحتجاجات الشعبية في الشارع وقدرتها على تحقيق مطالبها مقارنة بعشر سنوات مضت، سواء بسبب الخشية من الفوضى والحرب الأهلية أو انقسام المجتمعات ما بين مؤيدين ومعارضين، والأهم لعدم وجود قيادات حقيقية على الأرض لتلك الاحتجاجات التي يتم الاكتفاء بالترويج لها على السوشيال ميديا.
فمن السهل أن تطلق هاشتاج بعنوان ثورة الغلابة، لكن حتى في حالة الاستجابة لتلك الدعوة، ستكون كالفقاعة سرعان ما ينتهي أثرها في ضوء عدم وجود قيادة تنظم تلك الاحتجاجات وتضمن لها الاستمرار حتى تحقيق أهدافها.
لعبت حالة الاستنفار الأمني التي بلغت حد الهوس دورًا في مرور ذلك اليوم وكأنه إجازة رسمية هاجر فيها سكان القاهرة مدينتهم المكتظة منذ مساء الخميس. بعض الصفحات التي تُشتَّم منها رائحة الإخوان لم تمانع الكذب، ونشرت فيديوهات قديمة لمظاهرات قالت إنها في شبرا كعلامة على انطلاق شرارة الثورة!
فالحرب خدعة يجوز فيها كل أنواع الكذب. وكان قد سبق يوم الثورة الالكترونية المفترضة شائعات كثيرة من قبيل احتمال فرض حالة حظر التجول وإغلاق الكباري والمواصلات العامة.
متفوقون بالفعل لجان الإخوان الالكترونية في انتقاء ما يثير الذعر.
واللافت أن الأجهزة الأمنية ما زالت تتعامل بمنطق "الحذر أفضل من الندم". فشرعت في حملة قبض عشوائي على المواطنين منذ مطلع الشهر في مدن عدّة، خاصة أن الدعوة للتظاهر تزامنت مع قمة المناخ التي التي يحضرها بعض رؤساء العالم. فكنت وآخرون نترجى الأصدقاء ألا يفكروا حتى في الاقتراب من أي شارع يؤدي لميدان التحرير لتجنب القبض العشوائي.
كما أن الأجهزة الأمنية لن تتخلص أبدًا على ما يبدو من عقدة التواريخ المرتبطة بالثورات، في تصميم غير مفهوم أن التاريخ يكرر نفسه لدرجة أنه من الممكن أن نسأل "هي الثورة الساعة كام لو سمحت؟!".
وينسى القائمون على الأجهزة، أو يتناسون، أن الثورة ضد مبارك في 25 يناير 2011 سبقها سنوات من تصاعد الغضب الشعبي عبرت عنه حركة "كفاية" و"الحركة الوطنية للتغيير" بسبب مشروع التوريث للابن. وسبق اندلاعها مباشرة مقتل خالد سعيد على يد الشرطة، ثم تزوير انتخابات 2010 بطريقة فجة، ونجاح ثورة تونس في الإطاحة ببن علي. إذًا لم يكن التاريخ بمفرده هو سبب الثورة.
لا يبدو تغيير أجهزة الأمن قناعتها بأن الثورة تحدث في تاريخ محدد يتم الكشف عنه مسبقًا على السوشيال ميديا ممكنًا. فالقائمين عليها يجدون في الدعوات فرصة لتبرير مواصلة التشدد الأمني والتوسع في القبض على المعارضين، خاصة من يتجرأون ويعبرون عن مواقفهم على السوشيال ميديا؛ العدو رقم 1 لأجهزة الأمن.
ومن ضمن الدروس اللافتة من 11/11 أن قادة الإخوان أنفسهم، ورغم تعاطفهم الواضح مع أي دعوة للاحتجاج ضد النظام، فإنهم لم يدعوا أنصارهم للتظاهر في ذلك اليوم ولو من قبيل الاستعراض.
نعم الجماعة في الداخل أصابها الكثير من الضعف والوهن مع حبس الآلاف من أنصارها وتوجيه ضربات موجعة لمصادر تمويلها من شركات واستثمارات. لكن الآلاف أيضًا ما زالوا خارج السجون، ولو صدر لهم الأمر بالخروج لفعلوا ولو بأعداد محدودة بغرض إثبات الوجود، حتى ولو خاطروا بسجن بعض عناصرهم.
ربما يعود عدم توجيه الأوامر للرغبة في التهدئة مع النظام وخروج مئات من السجون، أو المشاكل التي تعاني منها الجماعة في ظل غياب أي قيادة مؤثرة في أعقاب وفاة إبراهيم منير وحبس محمود عزت.
أما آخر الدروس التي يجب الإشارة لها، أنه على الحكومة أن تحذر من احتمال انفجار الغضب الشعبي لأي سبب غير متوقع في ضوء الغلاء المتصاعد وتدهور الأوضاع المعيشية وعدم شعور غالبية المواطنين بالاستفادة من كل ما جرى انجازه عبر السنوات الماضية من مشاريع قومية ضخمة.
قد تكون حادثة مثل سقوط الميني باص في ترعة الرياح بطريق المنصورة-ميت غمر بمحافظة الدقهلية ووفاة 21 مواطنًا سببا لتفجر شرارة الغضب، أو نقص مفاجئ في سلعة أساسية كالأرز أو العيش، أو اعتداء غير مبرر على مواطنين في قسم شرطة.
فسكان قرى الدلتا والصعيد والأحياء الخلفية في القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، ممن يرتادون طرق الموت المظلمة، لا يرون ولن يستخدموا المونوريل ولا القطار السريع أو الكباري الشاهقة التي بلغ عددها المئات في مناطق صحراوية. كما لن ينتقلوا للإقامة في شقق العاصمة الإدارية التي تقدر بملايين الجنيهات.
نحتاج برنامج تقشف واضح من الحكومة وتجنب مظاهر البذخ غير المفهومة من عاصمة صيفية وأخرى شتوية، وأكبر وأضخم وأعلى، ومؤتمرات يحضرها المئات لكن نتائجها لا تلق آذانًا مصغية. وهذا الدرس الأخير ربما يكون الأولى بالرعاية لو أردنا أن تنتهي القصة الماسخة أن الثورة ستندلع في تاريخ محدد وساعة محددة.