تابع العالم على مدى الأسابيع الماضية المظاهرات الشعبية التي اجتاحت العديد من المدن الإيرانية احتجاجًا على مقتل شابة لم تتجاوز 22 سنة، بعد أن اعتقلتها "شرطة الأخلاق" بزعم أن حجابها لا يتوافق مع "قواعد الحشمة" التي يفرضها النظام هناك.
تصدرت النساء الإيرانيات المشهد في هذه المظاهرات، وكانت الصور الأكثر انتشارًا هي لفتيات وسيدات يقمن بخلع الحجاب وقص شعورهن في مظهر احتجاجي، أثار الكثير من التعاطف بعد أن رأت شرطة الأخلاق الإيرانية في شعر النساء تهديدًا للنظام العام يستحق الاعتقال بل والضرب حتى الموت.
ولكن حدة التظاهرات تراجعت وبدأت الأوضاع تعود لطبيعتها تدريجيًا في معظم المدن الإيرانية، غالبًا في انتظار موجة احتجاجات قادمة لن تؤدي بالضرورة كذلك إلى إزاحة النظام الإيراني كما تتمنى الدول الغربية، وذلك رغم الجهود الهائلة التي بذلتها الولايات المتحدة والعالم الغربي عمومًا لدعم تلك التظاهرات.
تمثلت هذه الجهود في تغطية إعلامية مكثفة، والأهم إلغاء عقوبات كانت واشنطن فرضتها على طهران في وقت سابق، لتسهيل وصول الإيرانيين للإنترنت، في مواجهة محاولات النظام هناك إغلاق وسائل التواصل الاجتماعي لمنعهم من الحشد وتنظيم المزيد من الاحتجاجات.
دراسة حديثة أجرتها جامعة هارفارد، كشفت أن تأثير "إرادة الجماهير" التي يتم التعبير عنها عبر الحشد الواسع في الشوارع كوسيلة للتغيير السلمي والسعي لتحقيق الديمقراطية آخذٌ في التراجع بشكل غير مسبوق، خاصة في العامين الأخيرين.
بل إن الاهتمام بالديمقراطية نفسها كأولوية بالنسبة للشعوب الغربية، ودول العالم النامي كذلك، تراجع لصالح قضايا أخرى، على رأسها قضايا البيئة والتغير المناخي والمهاجرين في الغرب، مقابل تحسين الوضع الاقتصادي وتحقيق الاستقرار مقابل الفوضى والحروب في دول العالم النامي.
ورأت الدراسة التي أجراها الباحثون في هارفارد أن مظاهرات مثل تلك التي تشهدها إيران وتطالب بإنهاء القمع والفساد وتحسين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة تتراجع فرص نجاحها في احداث التغيير المطلوب مقارنة بأي وقت مضى على مدى المائة العام الماضية تقريبًا.
مع بداية القرن الحادي والعشرين، كانت فرص نجاح تلك الاحتجاجات في تحقيق التغيير المنشود تبلغ معدل احتجاجين من بين كل ثلاثة. اليوم، وبعد نحو عشرة أعوام، ورغم تزايد معدلات الاحتجاجات الشعبية في العديد من دول العالم كما كان الحال في العالم العربي في العام 2011، تراجعت هذه النسبة إلى احتجاج واحد فقط من بين كل ثلاثة. وكشفت دراسة هارفارد انه مع بداية العقد الثالث من العقد العشرين، أي في وقتنا الحالي، فلقد شهدت شعبية هذه الاحتجاجات المزيد من التراجع بمعدل النصف تقريبًا لتصل إلى نجاح احتجاج شعبي واحد فقط من بين كل ستة.
لا يعني ذلك أن الحشد الجماهيري الواسع في الشوارع فقدَ تأثيره تمامًا، وهو ما أكدته مثلًا مظاهرات سريلانكا الأخيرة عندما اجتاحت الجماهير القصر الرئاسي وأجبرت الرئيس على الفرار. ولكن مقابل النجاح الذي حققه الشعب السريلانكي في المطالبة بحقوقه وإزاحة رئيس فاسد، فلقد فشلت تظاهرات وحركات احتجاجية مماثلة شهدتها روسيا والصين واندونيسيا وهايتي وحتى كندا والولايات المتحدة.
أسباب هذا التحول الملحوظ متعددة، مع الوضع في الاعتبار اختلاف الظروف والخلفيات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية في كل دولة. ولكن يأتي على رأسها عمومًا، وفقًا لدراسة هارفارد، حالة الاستقطاب التي تهيمن على العديد من المجتمعات وتزايد الانقسامات الداخلية بسبب اتساع الفجوة في مستويات المعيشة ونمو الخطاب الشعبوي القومي ووسائل الاعلام المتشرذمة بين أصحاب التيارات المختلفة. وتتزايد الانقسامات بناء على أبعاد اقتصادية وإقليمية (المدن مقابل الريف) وفكرية (معتدل مقابل متشدد) أكثر منها حزبية.
أكثر من يستفيد من حالة الاستقطاب هذه هي الأنظمة، في سعيها للتقليل من أهمية الاحتجاجات الشعبية، والزعم أنها تمثل قطاعًا معينًا فقط من الشعب له مصالح محددة وليس الشعب بأكمله، وبالتالي يسهل قمعها وإنهاؤها.
هناك ما يمكن وصفه بـ "حالة عامة" في العديد من دول العالم، من "الإجهاد من الحركات الاحتجاجية" الداعية للتغير بزعم أن تلك الحركات لم تنتج سوى الفوضى وتدهور الأوضاع الاقتصادية
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد أداةً يحتكر المحتجون استخدامها كما كان الوضع مثلًا في العالم العربي قبل عشرة أعوام. فالأنظمة الحاكمة تستخدم نفس الوسائل لنشر المعلومات المضللة ولإضعاف المعارضين، والأسوأ من أجل كشف المعارضين والتضييق عليهم بوسائل مختلفة تتضمن الرقابة وحجب المواقع والاعتقال والحبس والمحاكمات الصورية.
بل إن دراسة هارفارد أشارت إلى أن حقيقة مهمة وهي أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون مفيدةً بالفعل في حشد المواطنين ودعوتهم لتنظيم المظاهرات، ولكن لها في الوقت نفسه تأثير مضر، يتمثل في أن هذا الحشد العشوائي ينتهي بعد فترة قصيرة، لغياب قيادة حقيقية على الأرض تقود تلك الجماهير.
وربما كان هذا هو أحد أهم الدروس المستفادة بالنسبة لي من المشاركة في ثورة 25 يناير. لم أكن متواجدًا في مصر خلال سنوات التمهيد الهامة التي سبقت الثورة (2005-2011). ولكن فور وصولي ميدان التحرير كان لافتًا ومقلقًا بالنسبة لي تلك الإجابة التي تلقيتها من المتظاهرين عند سؤالي عن الشخصيات أو الجهة التي تقود الحركة في الميدان.
"لا توجد قيادة، كلنا قادة في الميدان". وكانت القيادة الوحيدة المنظمة للأسف في حالتنا المصرية هي جماعة الإخوان المسلمين والتي لم تكن يومًا حركةً جماهيريةً لها مطالب ترتبط بتحقيق الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
هذه الإجابة نفسها سمعتها لاحقًا عندما اجتاحت المظاهرات عدة دول عربية وتحديدًا لبنان والعراق والجزائر. بنهاية 2019 شهدت هذه الدول تحركات شعبية حقيقية خارج الأطر الحزبية التقليدية، قادها بشكل رئيسي الشباب ومجموعات جديدة ترفض المؤسسات التقليدية القديمة. ولكن كل هذه المظاهرات لم يكتب لها النجاح بسبب عدم وجود قيادة منظمة، واكتفت بترديد مقولات شعبوية من نمط لا يوجد لدينا قيادة وكلنا قيادة.
وكانت النظم الحاكمة دائمًا ما تستغل هذا الوضع لتقول إنها لا تجد أمامها جهة واحدة تتفاوض معها من أجل البحث في مطالب المحتجين. وقتها قلت لنفسي إن الأشقاء في لبنان والجزائر والعراق يكررون نفس الخطأ الذي ارتكبناه في مصر.
ففي عالم ما قبل الإنترنت والثورة الرقمية، كانت الأحزاب والمجموعات المعارضة تستغرق سنوات عدة لبناء قواعد شعبية حقيقية تكون هي العمود الفقري لأي حركات احتجاجية في الشارع مثل النقابات العمالية أو المهنية أو الأحزاب المختلفة. هذا التواجد الفعلي على الأرض وإن كان يجعل الحشد أصعب وأبطأ، كان يجعل الاحتجاجات أكثر استمرارية وتنظيمًا ووضوحا في المطالب من خلال قيادة تعبر عنها وتستطيع التفاوض مع النظم الحاكمة.
أما في عالم التواصل الاجتماعي، فلا حاجة للعمل على الأرض أو للعمل التراكمي، ويكفي إطلاق عدة بوستات تحظى بشعبية واسعة لكي يليها تظاهرات قد تجذب الآلاف أو الملايين. ولكن هذه الاحتجاجات تختفي وتتلاشى بنفس السرعة بسبب غياب التنظيم القوي والقيادة الموحدة القادرة على تنسيق المطالب وهو ما يسهل للأنظمة الحاكمة قمعها بسرعة.
التظاهر في الشوارع هو أحد وسائل الضغط المهمة في الحركات الاحتجاجية، ولكن يجب أن تتزامن مع تلك التظاهرات وسائل أخرى، مثل التفاوض مع الأنظمة الحاكمة والسعي لاكتساب دعم قطاعات وأصحاب مصالح من داخل النظام نفسه.
وأخيرًا، كشفت دراسة هارفارد أن هناك ما يمكن وصفه بـ "حالة عامة" في العديد من دول العالم، من "الإجهاد من الحركات الاحتجاجية" الداعية للتغير بزعم أن تلك الحركات لم تنتج سوى الفوضى وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو ما تستفيد منه بالطبع الأنظمة الحاكمة الساعية لقمع تلك الاحتجاجات.
ومقابل الدعاوى الغربية للديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن عودة أجواء الحرب الباردة وبروز نفوذ روسيا والصين حيث يحكم حزب/ رئيس واحد منذ عقود زاد من شعبية الأفكار المعادية للديمقراطية والتي تزعم أن تحقيق رفاهية الشعوب تتطلب قادةً أقوياء على نمط بوتين وتشي جين بينج، لا أفكارًا ليبراليةً لا تهدف سوى لخدمة مصالح الغرب ورغبته في الهيمنة على العالم.
ويزيد من الشكوك في جدوى الاحتجاجات الجماهيرية أنها حتى وإن حققت تغييرًا، فإن الجماهير تكتشف سريعًا أنَّ مجرد الخلاص من رئيس أو حاكمٍ ما لا يعني تحقيق مطالبها، وأنَّ القادم الجديد قد يكون أسوأ بكثير من الوضع الذي تخلصوا منه للتو.
كان هذا هو الوضع في زيمبابوي بعد الخلاص من روبرت موجابي، وكذلك في السودان حيث تمت الإطاحة بالبشير، ولكن لم يلي ذلك نظام ديمقراطي حقيقي بل نخبة عسكرية حاكمة. ولو أضفنا لذلك مثلًا ما شهدته ليبيا والعراق واليمن ومصر بعد ثورات الربيع العربي، والتي لم تحقق عمليًا أيًّا من مطالبها بل ازداد الوضع سوءًا، لفهمنا ربما سبب تراجع شعبية الاحتجاجات الجماهيرية السلمية في منطقتنا العربية.