بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات تقريبًا عن الساحة الفنية، يظل الزعيم عادل إمام متصدرًا المشهد على صفحات السوشيال ميديا بشكل يومي، ليس بأخبار فنية جديدة أو بأسرار عن حياته الشخصية، بل بظهور غزير على صفحات الترول والميمز.
طوال تاريخه الطويل أثار الزعيم جدلًا واسعًا حول ذاته وأعماله ومواقفه الشخصية، ولكن هناك جيل جديد ظل بعيدًا عن ذلك التفاعل، يعيد اكتشاف عالم عادل إمام بشكل مغاير تمامًا وبسيولة لم يتوقعها أحد. فإذا كان عادل إمام عايش عدة أجيال مختلفة على مدار ستين عامًا من التمثيل، وتلقت الأجيال أعماله، كلٌّ حسب زمانه وقضاياه، فجيل الألفية الجديدة، أو أبناء السوشيال ميديا، تلقوا الفنان كما تلقوا كل أوجه الحياة تقريبًا؛ عن طريق صنع الميمز والسخرية التي لا تتوقف.
ورغم ابتعاد عادل إمام عن السينما منذ فيلم زهايمر (2008)، وعن الدراما التلفزيونية منذ مسلسل عوالم خفية (2018)، فإنه حاضر وبقوة في كل تريندات السوشيال ميديا عن طريق الميمز المختلفة التي يصنعها الشباب على تمبات وجهه المقصوصة من أفلامه القديمة، أو حتى صوره العادية، وأحيانًا يكون هو نفسه تريند الميم الجديد.
بات ملحوظًا مؤخرًا وجود ارتباط شرطي بين صور عادل إمام المختلفة والميمز المصنوعة منها، حتى صوره من حياته الخاصة التي لم يقصد بها تأدية أي مشهد ساخر أو تمثيلي.
ينتقد عادل إمام كل شيء بالتهكم والمسخرة والاستخفاف، وربما يكون هذا ما جعله متوافقًا مع مزاج متصفحي وسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحالي الذين يهربون من ثقل الواقع بالسخرية، ويتعاملون مع الأحداث السياسية والاجتماعية والقضايا المصيرية الكبرى بالنقد الهزلي كبديل عن العجز عن مواجهتها بجدية وإيجاد حلول واقعية لها.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الميمز هي لغة الإنترنت اليوم، باعتبارها الوسيلة الأكثر شيوعًا والأسهل فهمًا بين المستخدمين مهما كانت لغتها أو موضوعها.
كيف بدأ "الميم"
أول من وضع تعريفًا دقيقًا لكلمة ميم هو العالم ريتشارد دوكينز عام 1974، بأنه "عنصر من ثقافة أو نظام سلوك ينتقل من فرد إلى آخر عن طريق التقليد أو غيره من الوسائل غير الجينية". كانت الميمز على الإنترنت قبل عصر سيطرة السوشيال ميديا بسيطةً جدًا، ومصدرها الأساسي مواقع أجنبية مثل reddit أو 9gag وغيرهما.
في مصر ومع انتشار فيسبوك لم يختلف الأمر كثيرًا، كانت السيطرة للكوميكس العادية التي احتوت النكات المشهورة والمواقف السياسية الساخرة فقط. ولكن النقلة النوعية في الميمز المصرية حدثت مع ظهور مجموعات فيسبوك "أساحبي" و"ESS" اختصارًا لمجتمع مصر الساخر. فتحت المجموعتان أفقًا مبدئيًا لصناعة الميمز في مصر وعربيًا أيضًا، لأنهما لقيا صدىً لدى مواليد التسعينيات، وساعد في ذلك الانفتاح السياسي المؤقت بعد الثورة، الذي كان محفزًا للسخرية من العهد البائد، الذي كان بائدًا حينها، وكل ما هو قديم أو منتمٍ إلى عالم الآباء.
تطورت الميمز من مجرد نكتة تافهة على "تمب" أو قالب بسيط جدًا، إلى نكات مركبة ولاذعة وقصص مصورة أحيانًا. مع الوقت تنوعت نوافذ السوشيال ميديا لتتجاوز فيسبوك، فأصبحت الميمز "mainstream" أو تيارًا شائعًا على أي تايم لاين.
لا تنضب الميمز أبدًا، أو بالأدق تعيد خلق نفسها من جديد كنجوم البحر. قد يرجع ذلك إلى أنها تملك بداخلها مقومات البقاء والانتشار، فهي تحقق السخرية اللاذعة واللحظية لأي فكرة مهما كانت كبيرة ومعقدة، ومناسبة للاستهلاك السريع الذي يميز منصات السوشيال ميديا. كما أنها تشعرنا أننا مبتكرون حتى ولو كان ما خلقناه إفيهًا تافهًا. ولا ننسى دأب صناع الميمز المشهورين على محاولة التخليق المستمرة سواء عن طريق ميمز جديدة تمامًا، أو البحث العميق عن تمبات لم تستهلك من قبل، كما فعلوا مع وجوه عادل إمام وشخصياته المختلفة.
عادل إمام: ميم لورد بالفطرة
تعبيرات وجه عادل إمام تقول، بحركة صغيرة واحدة وخاطفة، الكثير، فإلى جانب حضوره الطاغي وكاريزمته المعهودة، فإن الزعيم محبب الطلة، يمتلك وجهًا لا يمكن الملل من رؤيته. كوجوه فلاحي أرياف مصر، أسمر نوعًا ما ويظهر في شكله التشريحي كأنه لحم على عظم، ولسبب غريب فإن بريق وجهه متجدد لا يخفت بفعل الزمن وتقدم العمر وسيطرة التجاعيد.
كل ذلك خلق من عادل إمام كتالوجًا كبيرًا من الوجوه والانفعالات والحركات التمثيلية وآلاف الإفيهات والعديد من ردود الفعل غير المتوقعة
ذلك البريق والتجدد هو ما ميزه في ضبط انفعالاته بسرعة، وقدرته المدهشة على التعبير، والتحكم الكامل في الوجه، بداية من منطقة الحاجب، مع فتح العينين إلى أقصى اتساعها، وتقديم ابتسامته العريضة، أو تحريك الشفتين إلى أعلى أو ضمهما تعبيرًا عن موقف الاستغراب أو الدهشة أو التأثر. كما نوع أدائه الصوتي بالتزامن مع أداء وجهه الحركي، فيعلو صوته في جمل معينة متوترة، ثم يخفضه تاليًا في المشاهد التي تحتاج إلى تقديم نصيحة أو حكمة ما، أو التعليق على موقف صعب ومأساوي، ثم الانتقال منه مباشرة إلى تقديم مشهد ضاحك.
ينتقل بعد ذلك للتعبير بكامل الجسد لينقل كل الانطباعات الممكنة عن الشخصية التي يؤديها، فأصبحت له حركات مميزة تلازمه، مثل حركة اليد الذي يؤديها في لحظة معينة، أو حركة الكتف في مشاهد أخرى. كل ذلك خلق من عادل إمام كتالوجًا كبيرًا من الوجوه والانفعالات والحركات التمثيلية وآلاف الإفيهات والعديد من ردود الفعل غير المتوقعة، حتى لو كانت متكررة مع شخصياته الكثيرة.
لم تسبق عادل إمام شخصية فنية سواء كانت مصرية أو غير مصرية، استطاعت أن تدير موهبتها كما فعل هو. حقق الزعيم نجاحًا جماهيريًا جارفًا في تاريخ السينما، وحطم كل الأرقام التي سبقته في البقاء على القمة، وامتلك الاستمرار وطوّره أمام كل التحديات التي واجهته. كان ذكيًا طوال الوقت وقادرًا على قراءة وفهم والتقاط الوضع العام والاستفادة بكل الخيارات المتاحة، ودارسًا ممتازا لدوافع الجمهور ويعرف كيفية التعامل معهم وإبقائهم دومًا تحت إمرته الفنية بوصفه الزعيم.
البعث من الرماد
في احتفالها بعيد مولده الثاني والثمانين نشرت صفحة Identity Magazine فيديو لمشاهد مختلفة مجمعة من أفلام عادل إمام من حقب متباينة وأرفقت به عنوانا معبرًا "زعيم التمثيل وزعيم الميمز في الوطن العربي". وفي الصورة التي نشرها مدير أعماله عادل سليمان على فيسبوك للاحتفال بنفس عيد الميلاد، كان الفنان يرتدي تريننج أصفر ويمسك سيجارة بيده اليمنى ويجاهد ليبتسم ابتسامة تليق بالموقف.
https://www.facebook.com/IdentityMagEG/videos/542187024038806/انهالت التعليقات على الصورة بين التهاني والتبريكات، لكن كان هناك تعليق منتشر ومتكرر من الجمهور صغار السن مفاده: تمب جديد، أو: ميم جاهز من غير كابشن.
الارتباط الشرطي والمباشر بين وجه عادل إمام والميمز بعث كثيرًا من أفلامه التي نُسيت مع الزمن، أو حتى أعاد تدوير مشاهد شهيرة من أفلام مختلفة وإعادة صياغتها بما يناسب الموقف المقصود من الميمز.
أحمد كمال، أحد صناع الميمز المشهورين على فيسبوك، ويمتلك ما يقارب من 150 ألف متابع، يقول إن هناك ألفة بين الناس وعادل إمام، حتى مع جيله والأصغر منه الذين لم يعايشوا فترته الذهبية في السينما، ألفة تعتمد بالأساس على التنوع الرهيب في شخوصه وانتشاره في أذهان الناس، أو حسبما قال للمنصة "عادل إمام تقريبًا عمل كل حاجة، وتلاقي ريأكشنات وشه مناسبة لأي فكرة، أي فكرة في دماغك هتلاقي ليها صورة أو فيديو لعادل إمام، ومناسبة لأي موقف حتى لو لبسته حجاب وعملت فكرة عن الأمهات".
لا يعرف كمال سببًا لانتشار ميمز عادل سوى تلك الألفة بينه وبين خيال الجمهور، لكنه يقول "عادل إمام بيعمل المشهد أو الحاجة بيكون لها طعم مختلف وممكن تعيش من غير سبب"، مدللًا على كلامه بمشهد مباراة كرة القدم في فيلم مرجان أحمد مرجان، والذي لم يستغرق سوى دقائق معدودة إلا أنه استطاع استغلاله في تدوير أفكار الميمز ليصنع منه ما يقارب مائة ميم مختلف، وفي كل مرة يبدو جديدًا ومضحكًا بنفس القدر.
وجد كمال، وهو خريج دراسات إسلامية، في صنع الميمز تفريغًا لأفكاره، واكتشف أنه يملك موهبة صنع الإفيه السريع. يقول إن معظم الميمز التي صنعها عن عادل، تبدأ عنده بالنظر إلى الصورة وتأملها ثم تأتيه فكرة مستلهمة من ريأكشنات وجهه، ومناسبة لحدث عام يشغل الناس.
وفي معظم الأحيان يصنع من الصورة الواحدة أكثر من ميم بأفكار مختلفة. يضيف أنه في وقت ما لم يكن على ما يرام نفسيًا، فقام بمشاركة صورة لعادل إمام من فيلم زهايمر، وكتب عليها "حاسس أني مش تمام" ليعبر وقتها عن ما بداخله بكل بساطة وسهولة، ووجد هذا الميم تفاعلًا ضخمًا وعددًا كبيرًا من المشاركات، ليتحقق ما أراده، ويجد الكثير ممن يمرون بحالة نفسية سيئة أنها تعبر عنهم وتمثلهم.
قد تتقاطع فكرة الميمز بأكملها مع مشوار عادل إمام في شيئين مهمين: القدرة على التجدد، والسخرية اللامتناهية. يتناول الزعيم كل شيء بالتهكم والمسخرة والاستخفاف. ربما يكون هذا ما جعله متوافقًا مع مزاج متصفحي وسائل التواصل الاجتماعي الذين يهربون من ثقل الواقع بالسخرية، ويتعاملون مع الأحداث السياسية والاجتماعية والقضايا المصيرية الكبرى بالنقد الهزلي كبديل عن العجز عن مواجهتها بجدية وإيجاد حلول لها.
وباعتبار أن الميمز تتجدد من داخلها تلقائيًا، فكل فكرة قابلة للتفتيت وإعادة القولبة على تمبات مختلفة حتى تستمر عجلة الضحك في الدوران، كذلك كان مشوار عادل إمام الفنى، متجددًا دومًا بشخصيات حيوية ورسائل مهمة داخل أعماله، وحتى مواقف حياتية كبيرة وفارقة أحيانًا.
أما السخرية اللاذعة فكانت ركنًا مهمًا في بناء أي شخصية أداها عادل إمام، فكلها بلا استثناء تسخر من نفسها ومن محيطها بشكل متمرد أحيانًا ومتماهٍ في أحيانٍ أخرى؛ بهجت الأباصيري يسخر من التعليم، والمنسي يسخر من الحياة، والهلفوت يسخر من جبن الناس، وعنتر يسخر من الشرق والغرب معًا، وسيد الشغال يسخر من الأغنياء، وأحمد فتح الباب يسخر من الدولة. وهكذا دواليك، سخرية لاذعة وناقدة لا تنتهي أبدًا، وتلك السخرية وإعادة تدوير الأفكار هما الغذاء اليومي لمستخدمي السوشيال ميديا.