عندما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن 2022 سيكون عام دعم المجتمع المدني راودني السؤال الطبيعي والمنطقي: هل هذا الإعلان يعني خطوة في طريق الحلم المشروع بمجتمع أقوى من السلطة؟ أم أنه ليس إلا محاولة جديدة لفرض المزيد من القيود والوصاية على المجتمع المدني؟
بنظرة مدققة على مشهد العمل العام في مصر تبدو النقابات المهنية، إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني، في أضعف حالاتها على الإطلاق، تراجع فادح في أدوارها القانونية و"التاريخية"، حصار تام لتأثير مارسته على مدار سنوات طويلة، تهميش كامل لوجودها البراق ودورها الطبيعي كجماعات ضغط تدافع عن المنتسبين لها وتدعمهم.
كان الحلم التاريخي الذي بثته ثورة 25 يناير في المشهد السياسي المصري هو أن يكون المجتمع أقوى من السلطة، والمجتمع هنا مقصود به الأحزاب والنقابات والمراكز والجمعيات ووسائل الإعلام وغيرها من مؤسسات المجتمع وجماعات الضغط، قوة قانونية ومؤسسية تخلق التوازن الغائب، وتردع السلطة عندما تخالف القانون أو تستبد بالقرارات والسياسات، في القلب من هذا المجتمع كانت النقابات المهنية تلعب دورًا مهمًا ومؤثرًا، حتى في أشد لحظات الحصار المفروض على المجتمع كان الصوت الصادر عنها مختلفًا ومميزًا ومهنيًا، وظلت هذه النقابات تمارس ذلك الدور حتى عدة سنوات مضت؛ عندما قررت السلطة أن تلغي دورها تمامًا، وأن تحاصرها وتنفرد وحدها بإدارة الدولة بالكامل، وهي اللحظة الأولى التي شكلت البداية لتكوين ديكتاتورية خالصة ظهرت بعد عام 2013.
تاريخيًا كانت هناك عدة نقابات تملك الصوت الأعلى والتأثير الأكبر في المجتمع، وذلك بحكم تكوينها المهني وأدوارها التاريخية؛ نقابات الصحفيين والمحامين والأطباء كانوا أصحاب تأثير كبير في قضايا مهمة وفارقة في حياة الناس، الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والحق في رعاية صحية جيدة لكل المواطنين كانت أدوارًا تلعبها تلك النقابات، أدوار تتعدى ما تمارسه لصالح أعضائها ليمتد صدى ما تقدمه ويصل تأثيره إلى المجتمع بأكمله.
مارست هذه النقابات الثلاث دورها في الدفاع عن المجتمع وقضاياه الكبرى كثيرًا، واصطدمت مرات برموز السلطة السياسية في العصور المختلفة بداية من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحتى حسني مبارك.
لكن بنظرة سريعة على تلك النقابات ستكتشف قسوة الحصار المفروض عليهم الآن، فنقابة الصحفيين التي عُرفت تاريخيًا بقلعة الحريات ونقابة الرأي تراجع دورها في الدفاع عن الحريات الصحفية للدرجة القصوى، ورغم القيود الكبيرة المفروضة على الصحافة والإعلام بشكل عام، لم تدعُ النقابة لمؤتمر واحد يناقش أحوال الصحافة وحريتها، بل لم تصدر بيانًا ضد انتهاكات كثيرة طالت وتطول الصحافة والصحفيين طوال السنوات الماضية، ويبدو مشهد "سلم" النقابة الشهير الآن وهو مغلق "بالسقالات" ومحاط بأقمشة تحجب رؤية النقابة ذاتها معبرًا عن واقع نقابة الصحفيين في هذه اللحظة، وكلنا يعلم "رمزية" سلم النقابة الذي كان حاضرًا منذ الأيام الأولى لثورة المصريين في 2011، واحتضن قبلها بسنوات احتجاجات المواطنين ضد الاستبداد والفساد، ليس هذا فقط بل إن هناك من الصحفيين من لا يزالون في السجون، بعضهم صدرت ضده أحكام قضائية نهائية، ومع ذلك ليس ثمة تحرك جاد من النقابة دفاعًا عنهم، وهو واقع كاشف لتراجع حاد في دور النقابة الذي شكّل تاريخيًا حصنًا للدفاع عن الحريات العامة وفي القلب منها حرية الرأي والتعبير والصحافة.
المشهد لم يختلف كثيرًا في نقابة المحامين، فالنقابة الشهيرة لم تكن أفضل حالًا من الصحفيين، فرغم وجود عدد من أعضائها قيد الحبس بسبب قضايا سياسية تخص حرية الرأي والتعبير؛ غاب صوت النقابة تمامًا، ولم نعد نسمع عن لجنة الحريات في نقابة المحامين؛ وهي التي كان دورها يتعدى الدفاع عن مهنة المحاماة إلى الدفاع عن سيادة القانون والتصدي لكل الانتهاكات والمخالفات القانونية التي ترتكبها أجهزة الدولة، فضلًا عن دفاع النقابة عن كل سجناء الرأي من الصحفيين والكتاب والمبدعين، ضعف الصوت وغاب الدور والتأثير تحت وطأة الحصار المفروض على المجال العام.
كان مشهد حشود الأطباء في شارع القصر العيني في فبراير/ شباط عام 2016 لحضور جمعيتهم العمومية معبرًا عن قوة وقدرة النقابة على الضغط على السلطة والحصول على مكاسب؛ ليست للأطباء فقط بل للمجتمع بأكمله، هزت الجمعية العمومية للأطباء وقتها السلطة وأرسلت رسالة حاسمة للجميع بأن اعتداء الشرطة على الأطباء مرفوض بشكل قاطع، وأن توفير علاج جيد للمواطنين هو حق طبيعي لهم ومهمة لا بد أن تمارسها النقابة وهي تقوم بأدوارها القانونية، قبلها كانت نقابة الأطباء حاضرة دائمًا في كل ما يتعلق بصحة المواطنين والتشريعات التي تنظم مهنة الطب، أدوار تاريخية كانت تحجم من انفراد السلطة بالسياسات الخاصة بالعلاج والمستشفيات وغيرها، ولكن للأسف الشديد غاب هذا الدور تمامًا خلال السنوات الأخيرة، وربما كانت "عمومية" 2016 هي آخر صوت جاد ومعبر لنقابة مهمة كانت تعمل في مساحة غاية في الخطورة ترتبط بصحة المواطنين وحقهم في علاج لائق ومناسب.
حصار المجتمع المدني بشكل كامل يمكن أن نختصره في ذلك المشهد.
ثلاث من أهم النقابات المهنية في مصر، نقابات مهمة تعاني تحت وطأة حصار كامل للمجال العام، حصار لا يترك ثغرة واحدة يمكن أن تمر منها طاقة من نور، طاقة تنمو بها الحرية، أو تتعدل بها أوضاع خاطئة، أو تنزاح بها سياسات مقيتة، ولكن في المقابل هناك استسلام تام للأسف من قبل هذه النقابات المهمة لذلك الحصار، وخضوع تام لكل القيود المفروضة على عملها ودورها وتأثيرها، وهي التي كانت تاريخيًا تقاتل دفاعًا عن حقوق أعضائها بل دفاعًا عن المجتمع بأكمله، وكلنا نتذكر أسماء مثل كامل زهيري نقيب الصحفيين وصدامه الشهير مع الرئيس أنور السادات الذي أراد تحويل النقابة إلى ما يشبه النادي الاجتماعي، وجميعنا يتذكر نقيب المحامين أحمد الخواجة وحضوره الساطع في كل قضايا الرأي والحرية.
هنا يبدو التساؤل عن "عام المجتمع المدني" طبيعيًا ومنطقيًا: هل ستسمح السلطة في 2022 "بتحرير" النقابات من القيود؟ وهل يمكن أن تخفف السلطة من قبضتها الاستبدادية على المجتمع لنقترب خطوة جديدة من الحلم التاريخي بمجتمع قوي يصنع التوازن المفقود؟ الحقيقة أنه حتى هذه اللحظة ليست هناك مؤشرات تدل على انفراجة قريبة، لكن الحقيقة أيضًا أن أية انفراجة مطلوبة لابد أن تتشكل عبر ضغوط من المجتمع المدني ذاته، وفي القلب منه النقابات المهنية، ربما تساهم هذه الضغوط في "انتزاع" ما يمكن أن يبقي المجتمع المدني على قيد الحياة.