منشور
السبت 3 يونيو 2023
- آخر تحديث
السبت 3 يونيو 2023
لا يمكن للواعين أن ينسوا عبارة الرئيس الراحل أنور السادات "مشكلتي ليست مع العمال والفلاحين، إنما مع الأفندية". كان يقصد هنا فريقًا من الجماعة الثقافية أظهر الامتعاض من أن يكون هو من يملأ الفراغ الذي تركه جمال عبد الناصر، ثم ضغط عليه ليحارب ويسترد سيناء المحتلة ومعها كرامة الجيش، ثم عاد يضغط من جديد ضد اتفاقية سلام مع إسرائيل، وبعدها حذر من آثار الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ عام 1974، ورفع شعارات العدالة الاجتماعية في وجه رأسمالية محاسيب مشوهة راحت تتعزز باستمرار الوقت.
لكن النخبة المثقفة لا تقتصر على منتجي الفنون والآداب والمعارف والعلوم، حسبما أدرك السادات، إنما تمتد إلى حشود من الواعين موزعة على المهن والحرف، في النقابات والجمعيات والمؤسسات الأهلية والتعاونية، الذين يشكلون طاقة للرفض والنقد.
وكانت السلطة طوال الوقت واقفة بالمرصاد لأتباع هذا التيار، الذي لا يكف عن رفد الحياة الاجتماعية والسياسية بوارد جديد مع تعاقب الأجيال، فمن بين هذا التيار كان يأتي المتطلعين إلى ممارسة دور سياسي، وبعضهم كان يسارع إلى الالتحاق بقطار السلطة، منتفعًا منها ومحتميًا بها، وبعضهم كان يواجهه في المجال العام، وداخل مؤسسات الدولة وإداراتها.
وعلى مدار عقود، كان للنقابات المهنية دورها في صناعة رجال ينخرطون في الحياة العامة، داخل الأحزاب السياسية وخارجها، فالصحفيون مثلًا، كانوا ينازعون السلطة في سبيل اكتساب مزيد من الحرية، باعتبارها القيمة الكبرى للعمل الصحفي برمته، والمحامون في تفاعل دائم مع مؤسسات الدولة، سواء في ساحات المحاكم حيث وزارة العدل، أو في أقسام الشرطة حيث وزارة الداخلية، وحتى في وجه رئاسة الجمهورية حين يترافعون في دعاوى قضائية.
وبقية النقابات لا يمكن إغفال تفاعلها مع السياسة، سواء استجابة لما تقتضيه طبيعة المهنة، أو في دفاعها عن مصالح أعضائها، ومقاومتها لأساليب الإضرار باستقلالها.
التقت السلطة والنقابات في ساحات عدة، اختلافًا وائتلافًا، ليس فقط بحكم طبيعة دورها، كما تقدم، إنما أيضا لاشتهاء السلطة في مصر دومًا إلى مد ذراعها الغليظة إلى كل مكان. ولا يمكن هنا إغفال التنظيمات السياسية لأهمية وجودها داخل النقابات المهنية، باعتبارها مساحة أكثر تحررًا للعب دور اجتماعي، يمكن ترجمته إلى دور سياسي.
فوجدنا اليساريين ينهضون في النقابات لمواجهة السياسات اليمينية بدءًا من عهد السادات، ووجدنا التيار الإسلامي بمختلف جماعاته يتوسل بالنقابات في كسب أرض جديدة تفيده في التقدم نحو السلطة السياسية.
صنعت النقابات مسارًا مختلفًا، أو فرضت قواعد محددة للعبة، كانت السلطة مجبرة على أن تنصاع لها في امتعاض
ولم يعدم أهل الحكم الوسائل لمواجهة هذا المد، إما بصناعة أنصار داخل مختلف النقابات، وهي مسألة كانت طوعية في بعض الأحيان، بحكم انتماء بعض رجال الإدارة والأحزاب الموالية للسلطة إلى النقابات، وكانت تأتي عنوة حين تفرض السلطة الحراسة على بعض النقابات، وتقوم بتعيين مجالس لإداراتها، بديلة لتلك المنتخبة من قبل أعضائها.
طوال الوقت كانت النقابات فناءً خلفيًا لمواجهة مستمرة بين السلطة ومعارضيها والمستقلين عنها. لكن النقابيين ظلوا حريصين على أن تترجم أي انتخابات إرادتهم الحرة، فأبدعوا في صناعة مسارات وإجراءات للنزاهة والشفافية، حافظوا على وجودها، بينما كانت إرادة الأمة كلها تنتهك بالتزييف والتزوير في الانتخابات العامة، سواء كانت في المحليات أو المجالس التشريعية أو الاستفتاءات، ثم انتخابات الرئاسة، باستثناء انتخابات 2012.
فقدت السلطة أعصابها ولجأت إلى الطرق الالتفافية التي كانت تتبع خلال حكم السادات ومبارك
فرضت النقابات قواعد محددة للعبة، كانت السلطة مجبرة على الانصياع لها في امتعاض، واستخدمت وسائل رأتها ضرورية للحفاظ على حصتها في النقابات، مثل تخير مرشحيها، ثم الإنفاق المفرط على الدعاية لهم، وتفريغ الملعب باستبعاد منافسيهم لأسباب قانونية مفتعلة، أو الحط من شأنهم بإطلاق شائعات ضدهم، أو ترهيب المهنيين بأن انتخابهم مرشحين ليسوا على هوى السلطة، سيجعل النقابات تفقد دعم الحكومة.
لم تختل هذه القواعد، إلا في فترات استثنائية فُرضت فيها الحراسة على بعض النقابات، لكن كان المهنيون يستردون حقهم في اختيار من يمثلونهم في إدارة شأنهم النقابي، بمجرد رفع الحراسة، بقرار من السلطة التنفيذية، أو بصدور أحكام قضائية تمكنهم من العودة إلى المسار الطبيعي.
في السنوات الأخيرة، بدا ذلك المسار مهددا، إذ استعرت شهوة السلطة في السيطرة على المجال العام، واستطالت أظافرها المسنونة، راغبة في خدش أي إرادة حرة، وتأميم كل عزائم الرجال، لينصاعوا إلى خيارات السلطة ومصالحها البحتة، لا سيما أن رغبتها في الاستحواذ على مختلف الإمكانيات المادية للمجتمع والدولة، اصطدمت في بعض المسارب والتفاصيل بمصالح النقابيين أنفسهم ورؤيتهم المختلفة، التي ظلت يقظة حتى بعد تعديل قوانين تجعل يد السلطة ممتدة طويلًا في أعطاف العمل النقابي برمته.
في هذا السياق جاءت الأحداث التي وقعت بنقابة المهندسين في 29 مايو/آيار 2023، حين دفعت السلطة برجالها لعقد جمعية عمومية تسحب الثقة من النقيب المنتخب المهندس طارق النبرواي، لإزاحة رجل يقف حجر عثر أمام مصالح مرتبطين بالحكم، ومنتفعين منه.
لكن المهندسين زحفوا من كل مكان، وصنعوا حشدًا مهيبًا، رفض الإطاحة بالنقيب، فما كان من السلطة، ممثلة في حزبها "مستقبل وطن"، وفق اتهامات النبرواي، إلا أن دفعت بحشد من البلطحية، فانهالوا على صناديق الاستفتاء تحطيمًا، وبعثروا محتوياتها قبل دقائق من إعلان القضاة النتيجة.
هكذا فقدت السلطة أعصابها في صراعها الطويل ضد المختلفين داخل النقابات، ولم تستطع على ما جرى صبرًا، فلجأت إلى الطرق الالتفافية حسبما كانت تتبع خلال سنوات حكم السادات ومبارك، وصرفت جزءًا من غضبها الغاشم إلى نقابة المهندسين، لتبدد إرادتهم وتبث رسائل إلى الجميع، بأن يدخلوا إلى "بيت الطاعة" الذي أقامته السلطة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي للمجتمع برمته، وأحاطته بأسوار صلبة سميكة، تريد أن تحشر داخلها كل من يرفع رأسه برأي أو موقف معارض أو مختلف.