قبل شهرين، نشرت المنصة مقالًا لصاحب هذه السطور، عن بشائر التغيير التي لاحت من شارع عبد الخالق ثروت، بعدما حسم خالد البلشي وأربعة من رفاقه معركة انتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين، واعتبر المقال أن تلك النتيجة سيكون لها انعكاساتها على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة بما سيؤثر إيجابًا في المشهد السياسي العام خلال العامين القادمين.
في معركة الصحفيين، واجه البلشي ورفاقه ما مارسته السلطة من ضغوط وما قدمته من إغراءات لحشد أصوات الجمعية العمومية للتصويت لمرشحيها. ورغم محاولات إنجاح ما أُطلق عليهم "مرشحو الدولة"، انحازت الجماعة الصحفية إلى الفريق الذي عُرف عنه استقلاله عن السلطة التي جنت على الصحافة وأبنائها ومؤسساتها حتى وصل الحال إلى ما هو عليه الآن.
منح البعض صوته لمعسكر الاستقلال النقابي عن قناعة بأن المهنة لن تتحسن أحوالها في ظل استمرار السيطرة الحكومية على أمورها، فيما صوت البعض الآخر لهذا المعسكر نكاية في السلطة باعتبارها المسؤول الأول عن تدهور أحوالهم المعيشية، كما باقي أفراد المجتمع الذي هبط أكثر من نصفه تحت خط الفقر.
يبدو أن هذا الأمل، الذي لاح في شارع عبد الخالق ثروت، أزعج السادة المسؤولين عن جهاز "تيئيس" الناس ودفعهم إلى الكفر بأي خيار سلمي في التغيير، مهمة هؤلاء التي يتقاضون عنها أجورهم هي إحباط الشعب وإغلاق النوافذ التي قد يتسرب منها أي ضوء.
عمل هؤلاء خلال الأسابيع القليلة الماضية على محو الآثار الإيجابية لانتخابات الصحفيين، وإيصال رسالة عكسية مفادها أنه لا وزن لإرادة الجماهير وخياراتها، وأن الاستحقاقات الانتخابية لن تُترك لتعبر عن رغبات الناس الحقيقية، وعليه فكل عملية انتخابية مُرتقبة سيتم هندستها وفقًا لما هو مُتبع خلال السنوات الماضية.
معارك 30 شارع رمسيس
في 30 شارع رمسيس بوسط القاهرة، وليس بعيدًا عن ناصية شارع عبد الخالق ثروت حيث مقر نقابة الصحفيين، انطلقت الدعوة لعقد جمعية عمومية لنقابة المهندسين، التي انعقدت بالفعل في 30 مايو/أيار الماضي وانتهت باقتحام "بلطجية"، عاثوا فسادًا بأوراق التصويت وداسوا على إرادة المهندسين بالأحذية، قبل دقائق من إعلان تجديد الثقة في النقيب طارق النبراوي الذي تآمر عليه عدد من أعضاء مجلسه، ودبروا كي تُسحب منه الثقة، فإذا بمهندسي مصر يردون كيد هؤلاء في نحورهم ويجددون الثقة في نقيبهم.
الردة التي جرت وقائعها ليلة الثلاثاء تثبت أن صانع القرار ليست لديه نية في إصلاح المناخ
النبراوي، ومنذ انتخابه في مارس/آذار 2022 نقيبًا للمهندسين، دخل في معركة متعددة الجبهات مع أغلبية أعضاء مجلسه. حاول الرجل كما وعد ناخبيه إصلاح الترهلات التي أصابت الجسد النقابي في الفترة السابقة، فجهز عددًا من مشروعات القرارات المؤثرة، أبرزها؛ قضية التعليم الهندسي، وإعادة النظر في منح عضوية النقابة لخريجي العديد من الكليات والمعاهد المغمورة، ثم حاول تمرير قرار آخر يمنع الجمع بين عضوية مجلس النقابة ومجالس إدارات الشركات التي تمتلك النقابة حصصًا فيها منعًا لتضارب المصالح، كما رفض بشكل قاطع بيع أسهم النقابة في شركة "يوتن" للبويات، وهو ما فتح عليه أبواب النار من أصحاب المصلحة.
الخلاف تصاعد في الأشهر الأخيرة بين فريق يقاوم إصدار تلك القرارات ونقيب يصر على تنفيذها. استخدم كل فريق الأدوات التي تدعم موقفه، دعا النبراوي إلى عمومية غير عادية في مطلع مارس الماضي ووافق معظم الحضور على مقترحاته، ومنها عزل بعض خصومه وعلى رأسهم الأمين العام للنقابة، الذي دفع مجلس النقابة إلى رفض مخرجات الجمعية.
وتم الطعن على تلك المخرجات أمام القضاء الذي قرر وقف تنفيذها لحين الاطلاع على تقرير لجنة المفوضين، فاستخدم الفريق الآخر نفوذه ودعا إلى عقد جمعية عمومية لسحب الثقة من النبراوي.
استخدم المجلس الأعلى لنقابة المهندسين، الذي ينتمي بعض أعضائه إلى حزب مستقبل وطن، الذراع السياسي والبرلماني للسلطة، كل أدوات الحشد لعمومية 30 مايو، من ضغوط على المهندسين الذين يعملون في هيئات ومصالح حكومية إلى وعود بتحقيق مزايا لعموم أعضاء الجمعية العمومية.
توافد المهندسون إلى قاعة المؤتمرات لحضور الجمعية العمومية، وبلغت التقديرات تسجيل نحو 24 ألف مهندس حضورهم، صوَّت 90% منهم لصالح تجديد الثقة في النبراوي بحسب نتائج اللجان الفرعية التي أُعلنت تباعًا.
وبعد انتهاء فرز وتجميع الأصوات فوجئ الحضور بدخول مجموعة من البلطجية ليعتدوا على المهندسين، ويتلفون أوراق الاقتراع ومحاضر الفرز، ما أدى إلى انسحاب اللجنة المشرفة، في مشهد أعاد إلى الأذهان ما جرى في رمضان بالنادي السويسري قبل 5 سنوات، عندما اقتحم فريق من البلطجية حفل إفطار أقامته الحركة المدنية، لينفض الحفل ويصاب عدد من الساسة والشخصيات العامة إصابات بالغة، وإلى الآن لم يُدن أحد بتدبير أو ارتكاب تلك الجريمة.
ولأننا في عصر الذكاء الرقمي فلم تصمد ادعاءات مستقبل وطن سوى ساعات
الفيديوهات التي انتشرت على السوشيال ميديا بعد إفساد الجمعية العمومية ظهر بها عدد من قادة وأعضاء ونواب حزب مستقبل وطن صاحب الأغلبية البرلمانية، الذي سارع إلى نفي أي علاقة له بالواقعة مؤكدًا أن بعض أعضائه حضروا الجمعية باعتبارهم مهندسون.
ولأننا في عصر الذكاء الرقمي فلم تصمد ادعاءات مستقبل وطن سوى ساعات، حيث فند موقع صحيح مصر ما جاء في بيان الحزب وكشف قيادة نواب وأعضاء بالحزب لتلك الغزوة.
ما أشبه اليوم بالبارحة
المشهد الختامي لعمومية المهندسين، لا يختلف كثيرًا عن مشاهد صُنعت مرارًا في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، إذ استعملها الحزب الوطني ورجاله لتزوير إرادة الناخبين في أكثر من استحقاق نيابي، وبرعاية أجهزة كانت مهمتها هندسة معظم الاستحقاقات، بتنسيق مع قيادات الحزب الذي حُل لأنه "أفسد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والواقع المصري ككل"، بحسب ما جاء في حيثيات حكم حل الحزب الذي صدر بعد شهور من ثورة 25 يناير.
"الإدارية العليا" قالت في حكمها الشهير بـ"بحل" الحزب الذي استمر رئيسه في السلطة نحو 3 عقود "ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الحزب الوطني تبنى سياسات أنتجت ديكتاتورية، وهيمن على السلطة وزوَّر الانتخابات وتحكم في البرلمان فأفسد الحياة السياسية، وسخَّر الأجهزة الأمنية لصالحه، وأخَّر الوطن اقتصاديًا واجتماعيًا، وتسبب في زيادة الفقر والبطالة".
العديد من أعضاء الحزب الوطني المنحل تسربوا إلى "مستقبل وطن"، وضُم إليهم آخرون من الطامحين في الاقتراب من السلطة لتحقيق مصالح أو الوصول إلى مواقع لا يستحقوها، ليعيدوا إنتاج نفس المشاهد تحت سمع وبصر من يحركون المشهد من خلف ستار.
الردة التي جرت وقائعها ليلة الثلاثاء الماضي، تثبت أن صانع القرار ليست لديه نية في إصلاح المناخ الذي تسمم بفعل إقصاء كل معارض أو مخالف، أو حتى مستقل لديه رؤية تتعارض مع توجهات السلطة وسياساتها.
ما حدث في "عمومية المهندسين" من بلطجة وإهدار لإرادة الناخبين، كشف أن هناك من يصر على إجهاض أي محاولة لكسر هيمنة السلطة ومواليها على كل المواقع، فإذا أراد فرد أو حزب أو تحالف أن يشارك في أي استحقاق ويحقق نتيجة يتم اعتمادها، فلا يتم ذلك إلا عبر الجهة التي تشبه إلى حد كبير "مجلس صيانة الدستور" في إيران، وهو الجهاز المعني بـ"غربلة المرشحين" قبل أي استحقاق، ليحدد مدى صلاحياتهم للعمل تحت مظلة نظام ولاية الفقيه.
عندما انسدت القنوات الشرعية للتعبير عن الرأي، واستحوذت سلطة مبارك وحزبه على كل المواقع، وبلغ اليأس بالناس حد الكفر بآليات التغيير السياسي عبر صناديق الاقتراع باعتبارها أدوات غير مجدية؛ اندفع الناس إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم وطالبوا بإسقاط النظام حتى تحقق لهم ما أرادوا. هذا ما لا يدركه السادة الذين يديرون المشهد الحالي.