لم تكن مشاهد اقتحام نقابة المهندسين وتحطيم الصناديق على يد بلطجية مأجورين لمنع إعلان تأييد الغالبية الكاسحة للنقيب طارق النبراوي هي الأولى من نوعها بالنسبة لي، بل سبقها تراكم لتجارب عدة مماثلة على مدى سنوات طويلة. ولكن كل حادثة منفردة تثير الكثير من المرارة والشعور بالعجز أمام الانتهاك الصارخ للقوانين والقواعد المنظمة لما يسمى بـ"نزاهة" العملية الانتخابية من جهات من المفترض أنه منوط بها حماية القانون وأصوات المواطنين.
الكراسي الطائرة
كنت طالبًا جامعيًا مهتما بالشأن العام عندما حضرت مؤتمرًا حزبيًا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بمشاركة نجوم تلك الفترة، الراحل خالد محيي الدين الرئيس الأسبق لحزب التجمع والراحل المهندس إبراهيم شكري الرئيس الأسبق لحزب العمل، وآخرين، بمقر حزب العمل السابق بالسيدة زينب. وكان كلاهما حزبين شرعيين رسميين.
كان الحضور يجلسون في ساحة ضيقة نسبيًا بين بنايتين، ولكنها تكفي لعشرات. فجأة ومن دون أي مقدمات، فوجئنا بأكياس سوداء مليئة بالقمامة يتم إلقاءها من أسطح البنايات المجاورة. وفي الوقت نفسه تجمعت مجموعة من النساء محترفات البلطجة، يرتدين الجلاليب السوداء وعصابات الرأس، ويرددن أقذع الشتائم بحق خالد محيي الدين، "خالد يا كذا ويا كذا"، وكان في ذلك الوقت أحد الأحياء القلائل من مجلس قيادة الثورة في 1952 وكان يحظى باحترام خاص.
وفي الصفوف الأولى من المؤتمر بدأ رجال تبدو عليهم الشراسة و"القلب الميت" في إلقاء الكراسي تجاه المنصة والحضور، وهو ما اضطرنا جميعًا إلى الركض مهرولين نحو الشارع لتجنب الإصابات الغشيمة.
لم أكن أتوقع أن العمل السياسي في مصر يتضمن مثل ذلك النوع من الممارسات، خصوصًا إذا تم ترتيبها بإشراف أو رضا الأجهزة الأمنية المنوط بها حماية المواطنين. فهناك أعمال لا تود الأجهزة الرسمية التورط فيها بشكل مباشر، ولذلك يتم الإستعانة بـ"بلطجية من أجل الوطن"، ليبدو الأمر في النهاية خناقة وشغب بين طرفين، وبلاغات متعددة، ويتم في النهاية إغلاق الملف وكأن شيئًا لم يكن.
منع التصويت
في منتصف التسعينيات كنت أصبحتُ صحفيًا في أحد الوكالات الأجنبية، وقمت بتغطية الانتخابات البرلمانية التي كانت تجري تحت الإشراف القضائي الكامل. الخبراء المتخصصين في الأجهزة المعنية كانوا مضطرين لاحترام القانون رسميًا، ولكن هناك دائمًا مخرج في الذهن المتفتق يحقق النتائج المرجوة على النمط المصري، إجيبشيان ستايل، وكله بالقانون.
جرت الانتخابات داخل كل لجنة تحت إشراف قاضٍ محترم جليل، ولكن وزارة الداخلية بأذرعها النافذة كانت تسيطر على الشارع وما يجري خارج اللجان. وفي معظم الدوائر التي تنافس بها معارضين بارزين، سواء من الإخوان أو الوفد أو التجمع، كانت تتجمع بالقرب من مقار اللجان عصابات البلطجية، وخلفهم بخطوات نقاط تمركز رجال الأمن بالملابس المدنية والرسمية.
وكلما تجمع عدد من الناخبين اللذين يبدو من هيئتهم أنهم سيقومون بالتصويت لصالح مرشح المعارضة، تبدأ عصابات البلطجية في الاعتداء عليهم بالضرب ومنعهم من الوصول لمقر اللجنة الانتخابية. النساء بالجلاليب السوداء وعصابات الرأس وآثار ضربات المطاوي على الوجوه، ريا وسكينة ستايل، يتولين مهاجمة النساء، يقمن بشدهن من الحجاب أو الشعر، ثم الصفع وإلقاء التراب في وجوههن.
أما الرجال فينتظرهم عتاول يحملون الشوم والجنازير وقطعًا حديدية ينهالون بها على الناخبين على طريقة التلويش، وكل واحد ونصيبه. طبعًا يهرب الجميع ولا يتمكنون من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، وتخرج النتيجة بفوز مرشح الحزب الوطني المنحل.
كسر الصناديق
تكرر ذلك المشهد بانتظام في انتخابات 2000 و2005، ثم بشكل أكثر فجاجة واستهتارًا في كل الدوائر في عام 2010.
كنت في المنوفية بصحبة صحفي أمريكي لتغطية انتخابات 2010، مقتنعنين أن عمليات التزوير الحقيقية تجري في الأقاليم، بعيدًا عن العاصمة حيث تتركز وسائل الإعلام الغربية والعربية. لم نسمع عن محطة تليفزيون عالمية، أو حتى محلية، تفتح مكتبًا لها في قلب الدلتا أو أحد عواصم الصعيد، حيث التربيطات العائلية والقبلية هي أساس وجوهر العملية الانتخابية.
لم تخب ظنوننا. بعد إغلاق الصناديق، كان من المفترض أن يتم الفرز في مقر المدرسة نفسه حيث جرت عملية التصويت، تحت إشراف قضاة موقرين كانوا يؤدون عملهم بنزاهة. فجأة، بدأنا نسمع أصوات هتافات تأتي من الخارج.
كانت باكورة أعمال البلطجية بعد إجبار مبارك على التنحي منع النساء من المشاركة في فعاليات ما بعد الثورة
توجهتُ لباب المدرسة لمعرفة ما يجري، ورأيت ما يشبه المظاهرة الصغيرة لنحو خمسين شخصًا يرتدون الجلاليب ويحملون النبابيت، يتقدمون نحو باب المدرسة. اقتحموها فيما يشبه الغزوة، مع الركض بشكل عشوائي وضرب من يواجههم دون تمييز لإثارة فزع الجميع. سارعوا بالصعود إلى الطابق الأول حيث الصناديق، وانتزعوها من الموظفين وكسروها، وبدأوا في إلقاءها في حوش المدرسة.
تبعثرت أوراق التصويت على الأرض، تمامًا كما شاهدنا في فيديوهات اقتحام نقابة المهندسين الأخيرة على يد البلطجية.
المواطنون الشرفاء
تغيرت وتوسعت أعمال البلطجة بشكل غير مسبوق بعد ثورة 25 يناير 2011، وعشنا سنينًا بصحبة أعمال بلطجة مريبة متكررة، بينما الجميع يتساءل مَن الطرف الثالث الخفي الذي يحركها ويكلفها بمهام محددة.
كانت باكورة أعمال البلطجية بعد إجبار الرئيس الراحل حسني مبارك على التنحي السعي المنظم والحثيث لمنع النساء من المشاركة في فعاليات شهور ما بعد الثورة، عن طريق حملات التحرش الموسعة والمجنونة في أحيان كثيرة. في الفترة التي كان يمتلئ فيها الميدان وتتغير فيها المطالب بين الأعوام 2011 وحتى يوليو/حزيران 2013، كنت شاهد عيان، كما كثيرين، لمجموعات صغيرة شديدة الهياج تلاحق النساء حتى لو دخلوا أحد المحلات واحتموا بها.
وفي العديد من الفاعليات السياسية بعد ثورة يناير، كانت تتقدم فجأة مجموعات من البلطجية تثير الفوضى وتنشر الفزع وتعتدي بالضرب على الحضور. كما تشكلت مجموعات أخرى تتولى مهاجمة المتظاهرين عند تجمعهم في وسط المدينة بالقرب من دار القضاء العالي أو ميدان طلعت حرب وفي ميدان التحرير.
تصور البعض أن مرحلة الاستعانة بالبلطجة والفوضى الأمنية ستختفي بعد انتهاء حقبة الإخوان وتولي الرئيس السيسي، الذي أعلن أن أهم أولوية بالنسبة إليه استعادة الدولة ومؤسساتها وسيادة القانون.
بعد 3 يوليو 2013، تم استبدال مصطلح البلطجية بـ"المواطنين الشرفاء" عندما تم تنظيم مظاهرة أمام مجلس الشورى في نهاية العام 2013، للمطالبة بأن يتضمن الدستور الجديد مادة تمنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. تم الاستعانة بـ"المواطنين الشرفاء" للإمساك بالمتظاهرين بعد فض تجمعهم، وتسليمهم لقوات الأمن.
وعندما حاولت مجموعات صغيرة من أنصار ثورة يناير تنظيم مظاهرات للمطالبة بالإفراج عن زملائهم في وسط المدينة وفي حي مصر الجديدة، كانت تنتظرهم مجموعات صغيرة من "المواطنين الشرفاء" بملابس مدنية، يحملون كراتين بها زجاجات مياه غازية فارغة وقطع من الطوب وكسر السيراميك ويشتبكون معهم على الفور لتفريقهم وإجبارهم على الفرار.
هذه الاستراتيجية الجهنمية في الاستعانة بالبلطجية/المواطنين الشرفاء، بجانب الحبس الاحتياطي لفترات مطولة، كان نتيجتها تحقيق ما تصبو له أجهزة الأمن من منع كامل للاحتجاجات في الشارع، خاصة بعدما عادت تلك الأجهزة بكامل قوتها عقب 3 يوليو 2013 لتعلن أن أيام التهاون والتسامح مع المعارضة انتهت وللأبد، وأنهم عادوا لينتقموا من كل من شارك في ثورة يناير.
البلاغات المضادة
آخر مواجهاتي مع "المواطنين الشرفاء" كانت في صيف العام 2018 عندما قامت أحزاب الحركة المدنية بتنظيم إفطار جماعي بمقر النادي السويسري في إمبابة، ودعوة عدد كبير من رموز العمل السياسي والثقافي في مصر. فوجئت عند دخولي بطاولة منفردة يجلس عليها غرباء، لم تقم الحركة المدنية بدعوتهم. قال المسؤولون عن النادي إنهم مجموعة من المواطنين طلبوا حجز طاولة منفردة في اللحظات الأخيرة، ولم يكن من الممكن رفض طلبهم.
كانت إشارة الانطلاق آذان المغرب. فوجئنا بامرأة من طاولة الغرباء تشتبك في خناقة مع رجل على نفس الطاولة. قام بصفعها بالقلم وسقطت على الأرض. حاولتُ التدخل ولكن منعني أحد الأصدقاء قائلًا "ملكش دعوة". لحظات وانقلبت الأوضاع رأسًا على عقب.
انطلق الجلوس من طاولة الغرباء ليقوموا بقلب كل ما كان على الطاولات الأخرى من طعام. وأمسكوا بالأطباق بعد كسرها وبدأوا بإلقاءها تجاه الحضور. ركضنا جميعًا في كل الاتجاهات، ونجحت بصعوبة في الإفلات من مواطن شريف كان يطاردني بكوب مكسور.
غلت الدماء في عروقي، وقررت ومعي آخرون التوجه لقسم الشرطة لتقديم بلاغ. ولكن أصدقاءنا المحامين نصحونا بعدم التقدم بأي بلاغ، لأن الأمر قد ينتهي بتوجيه اتهام لنا نحن بضربهم وتخريب المكان، لأنهم بالتأكيد سيتقدمون ببلاغات مضادة.
من تعرضوا للاعتداء في نقابة المهندسين تقدموا ببلاغات تتضمن وقائع محددة بالأسماء والصور، يتهمون فيها أعضاء بارزين من من حزب مستقبل وطن بتخريب الانتخابات. ولكن في المقابل تقدمت الأطراف المتهمة ببلاغات مضادة ضد النقيب الشرعي وأنصاره. وفي الوقت ذاته، لم يتم إعلان النتيجة الرسمية حتى الآن، رغم أن كل محاضر الفرز أكدت رفض الأغلبية الكاسحة لسحب الثقة من النقيب. وغالبًا سيبقى الوضع على ما هو عليه، من دون محاسبة لأحد، مع توفير الحماية، كما هي العادة، للمواطنين الشرفاء أعضاء تنظيم "بلطجية من أجل الوطن".