كنت في الثانية عشر من عمري عندما سقط أحدهم جوار قدمي غارقًا في دمائه. لم أعرف إلى أين سارت به الأقدار، أإلى موت، أم لعاهة وتعافٍ. كنت أحسب نفسي وقتذاك رجلًا، والآن أعرف أنها كانت سنوات الطفولة، وأن تلك المشاهد لا يُنصح بها للأطفال في هذا السن، وربما للكبار أيضًا. في حياة أخرى ومكان آخر يمكنك أن تعيش وتموت دون مطالعة صور مماثلة، ولن تفوتك تجربة مميزة على الإطلاق.
1995.. الأكثر دموية
كنت أمام لجنة مدرسة المسلم الإعدادية بنين بالمحلة الكبرى. أما خالي، فكان بالداخل لمتابعة عملية التصويت، التي أوشكت على الانتهاء، في انتخابات مجلس الشعب لدورة 1995، حيث كان والدي مرشحًا، وكنت ملازمًا له.
وفجأة ظهرت سيارتان ميكروباص، ومن خلفهما بوكس شرطة، محدثين جلبة زاعقة. وأثناء زحفهم الأخير قبل التوقف، انفتحت الأبواب كطاقة مصغرة للجحيم ليهطل منها سربان من البلطجية، مفعمون بالهمة ومتقدون بالحماس البالغ ومسلحون بإيمانهم بمهمتهم أولًا، وبما تيسر من أسلحة خفيفة ثانيًا؛ سيوف وسنج وشوم مطعمة بالمسامير الصدئة والرائحة الكريهة.
خلال دقائق معدودة سيطر هؤلاء على اللجنة تمامًا، كسروا الصناديق وبعثروا محتواها على الأرض، بالداخل والخارج، لتختلط بدماء كثيفة. اعتدوا على كل من طالته أيديهم، بمن فيهم مندوبي المرشحين، حتى إن بعض الموظفين ألقوا بأنفسهم من الشبابيك هربًا.
وكطفل يعتقد أنه رجل، لم أبارح حرم اللجنة لأن خالي ما زال بالداخل لا أعلم مصيره، ولن أعود لأمي لأخبرها بأنني تركت أخوها وجريت.. ميصحش.
صرت أبعد وأقترب إلى أن شاهدتهم يحملون أشلاء الصناديق ويرحلون. حضر والدي إلى مسرح الأحداث بعد انتهاء العرض مباشرة، بينما تخشبت أوصال خالي لساعات طويلة من هول ما لاقاه.
في الأيام التالية ترددت أقاويل أنه تم احتجاز هؤلاء البلطجية صوريًا وتسجيلهم رسميًا بدفاتر قسم الشرطة. وبالتالي، لن يوجّه لأي منهم اتهامات في حال سقوط ضحايا. وبعيدًا عن صدق تلك الرواية من عدمه، فيوم الاقتراع الأسود هذا انتهى، مخلفًا وراءه 51 قتيلًا ومئات الجرحى في أنحاء الجمهورية، لتُسجل مصر سابقة لا مثيل لها بصناعة أسوأ انتخابات فى تاريخها الحديث وأكثرها دموية. وإلى الآن لا تزال انتخابات 95 محتفظة بهذا اللقب.
ليلة الفرز.. وحيلة الإعادة
في المساء، حاصرت قوات الأمن لجنة الفرز بنادي 23 يوليو، بينما أحاطت جحافل من أنصار الإخوان المسلمين بقوات الأمن المحاوطة للجنة الفرز. استدعى الإخوان ليلتها أعضاءهم من المراكز والقرى المجاورة لمدينة المحلة ليدعموا صفوفهم حيث الكرسي الأهم سياسيًا.
صارت الأجواء كابوسية تمامًا. أنوار المدينة مطفأة والحشود تتزايد مكتنزة بالغضب، أجسادهم تحتك كشرار متطاير، يفرغون توترهم في هتافات وزمجرة لم تهدأ طوال ساعات الفرز، التي امتدت حتى فجر اليوم التالي. كانوا يدبدبون في الأرض وهم يهتفون "يا قاضي قول الحق.. محفوظ ناجح ولا لأ"، في إشارة إلى محفوظ حلمي، القيادي الإخواني العتيد، ومرشحهم على مقعد العمال في هذه الانتخابات، ولاحقًا نائب المحلة في انتخابات 2000، ورئيس الكتلة البرلمانية للإخوان بالمجلس.
كنت برفقة صديقي مصطفى، الذي كان نظريًا وعمليًا بلطجي المدرسة. كانت عائلته مسيطرة على الميكروباصات في المحلة. كان يحبني كثيرًا، ولم أكن لأجد رفقة أفضل منه تلازمني هذه الأجواء الملحمية الخطرة المرشحة للانفجار في أي لحظة، بقلبه الثابت وشبحنته الأصيلة. طفنا سويًا في ثنايا الحشود حتى أُعلنت النتيجة بنجاح مرشح الحزب الوطني حيدر السحت عن مقعد الفئات، والإعادة ما بين محفوظ حلمي مرشح الإخوان وعزت درّاج مرشح الحزب الوطني على مقعد العمال.
كانت المرة الأولى التي تطلب فيها المعارضة تضامن المجتمع الدولي وتطلب رقابة دولية على الانتخابات، وهو أمر لو تعلمون عظيم!
كانت تلك حيلة أمنية ذكية بحق لاحتواء الموقف المشتعل. رفع الإخوان المحيطون باللجنة محفوظ حلمي على الأعناق وهتفوا له ولجماعتهم، وفي صباح اليوم التالي قُبض على كثيرين منهم لحين الانتهاء من انتخابات الإعادة. وبالفعل، خرجوا بعد إعلان نجاح عزت درّاج.. شياكة وفي التمانيات، واللعبة الحلوة نقول عليها حلوة.
لاحقًا، نسيت تمامًا مشاهد كثيرة رافقت أحداثًا مهمة، منها ما كان في ثورة يناير وقبلها وبعدها، ولكن صور هذا اليوم لم تبرح خيالى أبدًا، واضحة ودقيقة ومفصلة. ظللت بعدها أتساءل لماذا كل هذا العنف؟ وليه بالفجاجة دي، طالما كان ممكن أن يتم التزوير بطريقة أسهل وأسلس.
رد فعل المعارضة
دعت أحزاب المعارضة لمؤتمر صحفي حضره قادتها؛ نعمان جمعة نائب رئيس حزب الوفد، وضياء الدين داود أمين عام الحزب الناصري، وإبراهيم شكري رئيس حزب العمل، ومصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار، ومأمون الهضيبي عن الإخوان، وسمير فياض عن حزب التجمع، ومحمد عبد القدوس عضو مجلس نقابة الصحفيين، والفنان حمدي أحمد.
كانت المرة الأولى التي يناشد فيها قادة المعارضة المجتمع الدولي للتضامن مع قضية الحريات في مصر، وطلب الرقابة الدولية على الانتخابات، وهو أمر لو تعلمون عظيم في تلك اللحظة. كان مجرد الحديث عن مراقبة أي مؤسسات غير مصرية للانتخابات مدعاة للتخوين والانتقاد العنيف من الدولة، حسبما صرح وقتها اللواء حسن الألفي، وزير الداخلية.
سرد نعمان جمعة، الذي كان مرشحًا عن الوفد في دائرة إمبابة ما حدث في دائرته قائلًا، "فوجئنا بقوات وفتوات محمولة بقيادة المسؤول عن حي شمال الجيزة وبأمر من المحافظ، كانوا يدخلون على المندوبين ويوسعونهم ركلًا وضربًا، ثم يقومون بالتسويد والتقفيل. إنها فِرق منظمة من البلطجية زورت في وضح النهار، وأراقت الدماء في كل مكان".
وتساءل الرجل عن مصير التيار الإسلامي الذي سقط كل مرشحيه، وعمّا إذا كانت تلك رسالة من الدولة لهم بالعمل تحت الأرض، وأيضًا عن معنى إسقاطهم لكل المرشحين الأقباط، وما إذا كانت تلك فتنة مقصودة.
أصدر كل من مركز المساعدة القانونية والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان تقاريرهم حسب ما تمكنوا من رصده، والذي جاء متوافقًا مع ما رصده نواب المعارضة. أما الأهم هنا، والساخر أيضًا، أن القضاء الإداري أصدر قرارات بببطلان الانتخابات بـ109 دائرة، بما يمثل 50% من دوائر الجمهورية، وهو ما يعني فتح الباب على مصراعيه أمام المطاعن الدستورية على المجلس الجديد.
طالبت المؤسسات الحقوقية والأحزاب الرئيس مبارك بحل البرلمان، داعين إياه لاستخدام القوة التي يكفلها له الدستور بعد استفتاء الشعب.
فلاش باك.. الطريق إلى 1995
خلال النصف الأول من التسعينيات كانت مصر تمر بفترة عصيبة، كانت الأوضاع الاقتصادية سيئة للغاية، وكسرت معدلات التضخم حاجز الـ 20% في كثير من الأوقات، كما في عام 1991. واضطرت مصر للدخول في مرحلة مرتبكة من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي/الخصخصة ما بين 1991 و1997، مثلما اضطرت للمشاركة في حرب الخليج الثانية مقابل إسقاط نصف ديونها الخارجية، التي بلغت وقتها قرابة 45 مليار دولار، وإعادة هيكلة النصف الآخر.
أصابت حالة الضعف المعارضة والحزب الوطني أيضًا، لأن غياب السياسة لا يُفرق ما بين مؤيد ومعارض
على جانب آخر، امتدت حرب الدولة ضد الجماعة الإسلامية التي شهدت فورة نشاطها وجرائمها باستهدافات متتالية ومتعاقبة للسياحة، كانت ذروتها حادثة الأقصر عام 1997، والتي راح ضحيتها 58 سائحًا. فضلًا عن محاولات اغتيال عدة لمسؤولين مصريين، كان أبرزها اغتيال رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب المصري عام 1990.
وتبعتها محاولات أخرى امتدت لتصل لرئيس الجمهورية نفسه، مثلما حدث عام 1993 في سيدي براني، ومحاولة كوبري الفردوس في أواخر عام 1994، التي أعقبها توقيف أكثر من 30 إرهابيًا من مجموعة أطلقت على نفسها اسم "الجهاد"، وكذلك المحاولة الشهيرة لاغتياله في منتصف عام 1995 في أديس أبابا، قبيل أشهر قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية، التي نُسبت وقتها لتنظيم القاعدة بتنسيق مع الجماعة الإسلامية.
وعلى الجبهة السياسية تصاعدت حدة الأزمة داخل أروقة الحزب الوطني بسبب تدهور أوضاع أعضائهم في الدوائر، وتبادلوا الاتهامات مع الحكومة عن المتسبب في ذلك. عزا الحزب ذلك التدهور لارتفاع الأسعار وتفشي الفساد وفشل الوزراء في علاج أزمات القطن والأسمدة، وتدهور الإنتاج الزراعي وضعف الاستثمار. واتهمت الحكومة الحزب بضعف نوابه وشح كوادره وتداعي بناءه التنظيمي. ولعل كلاهما كان على حق.
المهم.. تم تكليف عدد من الوزراء بتنظيم جولات فردية في مواقع العمل والإنتاج الحكومية بالمحافظات، وتقديم وعود انتخابية تثقل كفة مرشحي الحزب الوطني وتدعم أعضاءه.
كانت السلطة في مصر كمن تبحر على قضبان، قلقة، تحاول المناورة لتمرير الموجة العاتية
الملفت للنظر هنا أن حالة الضعف التي أصابت أحزاب وتيارات المعارضة وكوادرها في تلك السنوات أصابت الحزب الوطني أيضًا، وبالدرجة نفسها تقريبًا، لأن غياب السياسة لا يُفرّق ما بين مؤيد ومعارض. وهو ما تكرر لاحقًا بعد عام 2017، وحتى الآن.
فالتيار الناصري مثلًا، الذي كان في أوّج قوته في الثمانينيات، بلغ مبلغًا حزينًا من الانشقاق والبؤس في تلك الأعوام. وكذلك حزبي التجمع والوفد، وانحصرت الأصوات المعارضة إعلاميًا على جريدة الوفد، التي كانت تصدر يوميًا وقتها، وصحف العربي والأهالي والشعب بطبعاتهم الأسبوعية.
الطريق إلى انتخابات 2005
ألقت سحابة تفجير برج التجارة العالمي في سبتمبر/أيلول 2001 بظلال كثيفة على النظام العالمي، وبالطبع طال مصر نصيب منها. الأمريكان قرروا التدخل بأيد غليظة في المنطقة، وصل ذروته بغزوهم الإجرامي للعراق في 2003، مما أسفر عن إرباك المنطقة كلها. وكانت السلطة في مصر وقتها كمن تبحر على قضبان، قلقة، تحاول المناورة لتمرير الموجة العاتية.
وبعد شهرين فقط من أحداث 11 سبتمبر، انطلقت للمرة الأولى قناة خاصة في مصر، وهي قناة دريم لمالكها أحمد بهجت. وبعدها بسنوات قليلة، وتحديدًا في 2005، تبعتها قناة المحور لصاحبها حسن راتب، الذي كان قريبًا من السلطة.
مارست قناة دريم، وبرنامجها السياسي الرئيسي "العاشرة مساء"، عملًا إعلاميًا يُناسب مساحة الحريات المطلوب تصديرها للخارج وقتها. والتي خرجت عن السياق أحيانًا، كإذاعة محاضرة محمد حسنين هيكل في الجامعة الأمريكية، التي كانت بمثابة الحديث الأصدح والأقوى والأوسع انتشارًا عن فكرة التوريث. وقال فيها "ملاحظة جاء موضعها وذلك أن همسًا شاع أخيرًا حول اقتراح بتوريث السلطة في مصر"، كما قال في موضع آخر عن الأنظمة العربية "طالت أعمارها بأكثر مما هو داع".
مع تنامي السخط ضد حكومة عاطف عبيد والسياسات الاقتصادية المتبعة وقتها، أقدم مبارك على إقالتها، وكان ذلك أمرًا جللًا، وكلف أحمد نظيف بتشكيل حكومة جديدة مختلفة شكلًا وموضوعًا، موضوعًا هنا محل كلام ومناقشة، في يوليو/تموز عام 2004. وفي السنة ذاتها، صدر في الفضاء العام العدد الأول من صحيفة المصري اليوم بطبعتها اليومية، وتأسست جريدتا الدستور والغد بطبعات أسبوعية. وفي العام التالي تأسست جريدة الفجر بطبعة أسبوعية أيضًا.
وكانت نقابتا الصحفيين والمحامين بمثابة درع قوي وصلب، وسينضم إليهم القضاة بعد قليل في احتجاجهم الضخم والمؤثر بعد تزوير انتخابات 2005. وفجأة يعج، مجازًا، المجال العام بأقلام وأصوات معارضة بالتزامن مع إطلاق حركة كفاية لبيانها الأول، بعد تشكيل حكومة نظيف.
ومع حلول عام 2005، وجد مبارك نفسه مضطرًا للترشح لانتخابات رئاسية للمرة الأولى، بعد 24 عامًا من استقراره على رأس السلطة في مصر، لا شريك له ولا حسيب ولا رقيب ولا الهوا.
انتخابات مجلس الشعب.. نوفمبر 2005
جرت انتخابات مجلس الشعب بعد شهرين من انتخابات الرئاسة.
الأمور ليست كما تحب السلطة، ليست تحت السيطرة الكاملة، المناورة أوصلت مبارك لخوض تجربة بشعة بالترشح أمام آخرين، صورته الإلهية خُدشت. والآن جاء موعد انتخابات مجلس الشعب، ويجب أن تنتقم السلطة لنفسها، عليها أن تُعلن بطريقة جلية وواضحة ولا تحتمل التأويل أنها متحكمة ومسيطرة وقوية وباطشة لو أحبت، وقاسية إن أرادت.
قال لسان حال السلطة إن لكل شيء حدود نرسم نحن أبعاده، ولكل مساحة أطر نضبط نحن موازينها، للأسف سنضطر لاستعراض العنف مرة أخرى. بالطبع ليس على شاكلة 1995 حاملة اللقب. ولكن صورة مخففة منها تحقق الغرض. وهنا نعود للقاعدة الماسية "التزوير ليس غاية بل مجرد وسيلة".
مفاجأة متوقعة غير سارة
أُجريت الانتخابات على ثلاث مراحل. مرّت المرحلة الأولى بقدر بسيط من العنف، مع ترقب حذر لحركة التصويت. كان إحساس السلطة العام قبل الانتخابات متيقنًا من انصراف الناس عنهم، وبالفعل كانت راداراتهم حقيقية، فما كان يموج به الشارع لا تخطئه عين.
سجل المصريون في المرحلة الأولى أكبر عملية تصويت عقابي في تاريخ انتخابات مصر الحديثة ضد مرشحي الحزب الوطني، حتى إنهم أسقطوا مرشحين مقربين إلى قلوبهم، فقط لأنهم انتقلوا لقوائم الحزب الوطني في 2005 وتخلوا عن صفتهم المستقلة.
ولو عدنا لتجربة دائرة المحلة الكبرى، بما أننا اعتمدناها نموذجًا للدراسة في هذا المقال، فسنجد أن عبد السميع الشامي نجح باكتساح في دورة عام 2000 كمستقل، وكان تاجر قماش بدرجة ملياردير، ويحظى بمحبة كبيرة في المدينة. رأيته بنفسي في الانتخابات وهو يجول شوارع المحلة بارزًا من سيارته المكشوفة، محاطًا بحشود مهيبة من المؤيدين.
ولكن الرجل اضطر غالبًا للانضمام لصفوف الحزب الوطني بعد نجاحه، وتغيرت صفته، ثم جاء موعد انتخابات 2005، وخسر خسارة مدوية عقابًا له على انضمامه للحزب. وذهبت الأصوات لشخص جديد تمامًا، قدمته جماعة الإخوان المسلمين للمرة الأولى، لم يسمع باسمه أهالي المحلة من قبل، وهو المهندس سعد الحسيني، الذي سيُنتخب بعد سنوات قليلة ليصبح عضوًا بمكتب إرشاد الجماعة.
لا أعلم كيف مرت انتخابات 2005 على نظام مبارك هكذا، ودون أن يتوقفوا أمامها كثيرًا بالفحص والدرس
ما حدث بالمحلة تكرر في جميع دوائر المرحلة الأولى تقريبًا، فحصد الإخوان المسلمون 34 مقعدًا من أصل 164 كانت مطروحة للانتخاب. وخاض رموز المعارضة معارك قوية في دوائرهم المعتادة، مما كان يعني إمكانية خسارة الحزب الوطني لقرابة ثُلث مقاعد البرلمان، وربما النصف لو امتد الخط على استقامته في المرحلتين الثانية والثالثة، وإذا ما وثق الناس في تحقق إرادتهم عبر الصندوق.
ومن ثم انطلقت الوحوش لضبط إيقاع المرحلتين التاليتين، وعلى الرغم من التدخل العنيف الخشن فيما تبقى من دوائر الجمهورية، حصدت جماعة الإخوان 88 مقعدًا، وحصلت المعارضة على 7 مقاعد فقط، بواقع 5 مقاعد لحزب الوفد، ومقعد واحد لكل من حزبي التجمع والغد، بينما حصل الحزب الوطني على 177 مقعدًا فقط، تحولوا بقدرة قادر لـ330 بعد ضم المستقلين له، واحتفظ 19 نائبًا بصفتهم كمستقلين ورفضوا الانضمام للوطني.
أي أنه، وعلى الرغم من كل ما حدث، خسرت السلطة تقريبًا ربع مقاعد البرلمان مرغمة.
لا أعلم كيف مرت انتخابات 2005 على نظام مبارك هكذا، ودون أن يتوقفوا أمامها كثيرًا "بالفحص والدرس" على رأي السادات. ربما لو فعلوا لتفادوا انفجار 2011 وتجنبوا رحيلهم جميعًا.
ارفع فأسك عاليًا
اصطحب مرشحو الحزب الوطني البلطجية في أغلب الدوائر، مدججين بسكاكين وفؤوس وشوم وسلاح ناري في بعض المناطق، وماجوا بها بما أوتوا من قوة. ولكن هذه المرة كان رصد ومتابعة ونشر ما يحدث أيسر كثيرًا من انتخابات 1995، سواء في الصحافة المصرية أو العالمية، وكذلك منظمات المجتمع المدني التي كانت في وضع متماسك وأكثر قوة وتنظيمًا عن ذي قبل.
مثلًا، نشرت نيويورك تايمز أن المهاجمين تسببوا في إحداث فوضى كبيرة في الكثير من مراكز الاقتراع في أنحاء مصر، مما أسفر عن مقتل رجل وإصابة العشرات، في عنف واسع النطاق يمثل جهودًا حكومية حثيثة لإحداث فوضى تمنع الإخوان المسلمين من تحقيق المزيد من المكاسب فى الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، المكونة من ثلاث مراحل.
وهو ما أكدته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في تقاريرها بأن العنف تفشى في المناطق التسع التي جرت فيها المرحلة الثانية لاختيار 144 مرشحًا، وأنه جرى التعرف على الرجل المقتول، وأنه كان يعمل سائقًا لأحد المرشحين، وتعرض للطعن حتى الموت على يد أحد المهاجمين. وقال مراقبو الانتخابات إن الكثير من المهاجمين أُحضروا إلى مراكز الاقتراع على متن شاحنات.
أما دويتشه فيله، فعنونت تقريرها بـ "الناخبون المصريون مجددًا تحت رحمة الشرطة والبلطجية"، وذكرت فيه أن جولة إعادة المرحلة الأخيرة من الانتخابات شهدت أعمال عنف واسعة غير مسبوقة شملت مختلف المدن والمراكز الانتخابية، مما أدى لوفاة ثمانية أشخاص وإصابة العشرات بجروح، وأن قوات الأمن أطلقت النار والقنابل المسيلة للدموع على الناخبين، مثلما استخدمت الهراوات لمنعهم من الوصول إلى المراكز الانتخابية. وهو ما تمت مواجهته بالتفاف الناس حول بعض مراكزهم الانتخابية وهتافهم ضد قوات الشرطة وما يمارسوه من بلطجة.
انتهت الانتخابات مخلفة وراءها 14 قتيلًا ومئات الجرحى، وبنسبة تصويت تدنت في المرحلة الثالثة لتصل إلى 10%، وزاد عليها هذه المرة انتهاكات ضد القضاة أثناء الفرز، لتبدأ معركة كبيرة بين القضاة ونظام مبارك أفضت لاحتجاجهم المهيب في العام التالي، وتشكُّل تيار استقلال القضاء، بالإضافة لأسباب أخرى ليست موضوعنا الآن.
أحد صباحات مايو 2023
ذات يوم قريب طالعت صناديق مبعثرة إلى جوار محتواها الورقي أثناء التصويت على سحب الثقة من نقيب المهندسين في جمعية عمومية غير عادية، حيث اصطحب أربعة نواب من حزب مستقبل وطن مجموعات منتقاة من بلطجيتهم المفضلون، وصنعوا مناوشة ضيقة محددة الهدف كعملية نوعية ذات إشارات درامية ضبابية. حينها تداعت في مخيلتي كل تلك الأحداث.
نهاية.. جيل كامل في مصر لم يسعده حظه لمعاصرة ومشاهدة منظر الصناديق المدغدغة المرمية على قارعة الطرق، وفي الترع والمصارف العمومية. لعل ما حدث في نقابة المهندسين كان فرصة لمشاهدة نموذج مصغر، ولا أتمنى لنا ولا لهم أن يشاهدوا مكروهًا في أيٍ من الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين. ولكن استعراض العنف مجرد عرض لأزمة قائمة بالفعل، تبحث عمّن يفككها ويتوقف أمامها بالفحص والدرس.