فليكر- نهال الشريف
بعض النساء يدلين بأصواتهن في إحدى المناسبات الانتخابية بعد الثورة

"الصناديق" تخاصم السلطة

منشور الاثنين 26 يونيو 2023

في كل قراءة جادة للأحداث التي شهدت تصويتًا عامًا أو فئويًا خلال السنوات الفائتة يبدو "الصندوق" خصمًا للسلطة الحالية ومناوئًا لها دون جدال.

أصوات المصريين اختارت الخصام مع السلطة الحالية بوضوح، هذه حقيقة لا يمكن التشكيك فيها أو النيل منها، حدث ذلك في انتخابات عامة في 2019، وبعد تعديلات أدخلتها السلطة على الدستور الصادر عام 2014، ثم حدث بعدها في انتخابات فئوية في نقابتين من أهم النقابات المهنية في مصر؛ نقابتا المهندسين والصحفيين.

فرغم أن النتيجة التي أُعلنت بعد التصويت على التعديلات الدستورية كانت تشير إلى الموافقة الشعبية عليها وإقرارها بشكل نهائي، وبعيدًا عن الاتهامات التي طالت النتائج ودقتها؛ فإن ما لم يستطع أحد إخفاؤه كان الرقم الذي كشف عن رفض نحو ثلاثة ملايين مصري للتعديلات، فضلًا عن نحو مليون آخر من الأصوات الباطلة، التي هي أقرب لأصوات الاحتجاج على عملية التعديل وإجراءاتها.

نحو أربعة ملايين مصري خرجوا إلى لجان التصويت واحتجوا، دون دعاية حزبية، حيث المجال العام مغلق بالضبة والمفتاح، ودون إعلام يرفض وينتقد، فحصار الصحافة والإعلام يصل إلى ذروته كما لم يحدث في تاريخنا الحديث بأكمله، اختار أربعة ملايين وسط تلك الأجواء أن يخرجوا إلى اللجان ليعبروا عن غضبهم من تعديل مدد الرئاسة، ومن العبث بالدستور، وهو رقم لا يمكن إهماله أو عدم الالتفات إليه، لا سيما أن أصحابه لم يحركهم إلا شعورهم بالرفض لإجراءات السلطة وتمسكهم بالمسار الديمقراطي والدستوري، مفاجأة لم تتوقعها السلطة وأنصارها أبدًا.

ولعلها واقعة غير مسبوقة، فلم يسبق أن خرج مثل ذلك العدد للرفض في أي استفتاءات شهدتها مصر، اللهم إلا بعد ثورة يناير الخالدة، وكانت السيولة السياسية التي يشهدها المجتمع هي الدافع للخروج. أما في فترات الحكم السلطوي فلم تشهد مصر أبدًا خروج ذلك الحجم من الرافضين والمحتجين على إجراءات تنوي السلطة اتخاذها.

تدرك السلطة الحالية أن أي انتخابات نزيهة لن تكون في صالحها

في مارس/آذار من العام 2022 كان المهندسون على موعد مع رسالة غاضبة أرسلوها للسلطة عبر صناديق الانتخابات، فقد انحازوا للمهندس طارق النبراوي واختاروه نقيبًا لهم في مواجهة هاني ضاحي وزير النقل الأسبق، والمرشح القريب من النظام.

اختارت الجمعية العمومية للمهندسين من عدته يمثل تيار الاستقلال النقابي، ويستطيع أن ينحاز لأعضائها لا للسلطة. ثم إن الرسالة كانت تشمل أيضًا الاحتجاج الواضح على أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة يعاني منها أصحاب المهنة لا سيما الشباب منهم. وكانت الرسالة بالغة الوضوح والتأثير، ولعل رسالة المهندسين وصلت إلى النقابات المهنية جميعًا، وإلى المجتمع بشكل عام، وبدأت تنتج تأثيرها بعد أن استوعبها وآمن بها الآلاف من المهنيين.

فبعدها بعام واحد، كان الصحفيون على موعد مع رسالتهم للسلطة عن طريق الصناديق، والمؤكد أن مهنة الصحافة والعاملون فيها عانوا من أوضاع اقتصادية واجتماعية غاية في السوء طوال السنوات السبع الفائتة، وحوصرت الصحافة بشكل لم يسبق له مثيل، وغابت النقابة بشكل كبير عن أزمات المهنة والصحفيين على السواء.

هنا انحازت الصناديق من جديد لخالد البلشي أحد رموز تيار الاستقلال النقابي، وأحد أبرز المدافعين عن الصحافة وحريتها، وصعدت أصوات الصحفيين به إلى موقع النقيب بعدما اختارت في الانتخابات مرشحي تيار الاستقلال بأعلى الأصوات في رسالة احتجاج واضحة ضد السلطة وممثليها.

وفتحت جولة الصناديق الثانية الباب للسؤال حول لحاق باقي النقابات المهنية المهمة بنقابتي الصحفيين والمهندسين، وإرسال رسالة المهنيين للسلطة لا سيما ونحن على أعتاب انتخابات نقابتين هامتين هما: الأطباء والمحامين.

كل محاولات العودة للوراء وإعادة السيطرة من جديد، انقلابًا على إرادة الناس، فشلت في مشهد مشرف حدث في نقابة المهندسين في مايو/أيار الماضي، فبينما حشد أعضاء مجلس النقابة من أعضاء حزب مستقبل وطن الجمعية العمومية لسحب الثقة من النقيب طارق النبراوي. احتشد الآلاف من المهندسين من جديد وصوتوا بأغلبية كاسحة لصالح بقاءه في منصبه، وهي هزيمة جديدة لحزب الأغلبية الذي قام بعض أنصاره بممارسة عنف وبلطجة داخل الجمعية العمومية تسيء لفاعليها فقط.

إن الأضمن والأكثر أمنًا لهذا البلد أن يأتي أي تغيير عن طريق صناديق الانتخابات

تدرك السلطة الحالية أن أي انتخابات نزيهة لن تكون في صالحها، وبالتأكيد ترصد التقارير الرسمية نتائج كل انتخابات حدثت طوال السنوات القريبة الماضية، تلك التي جاءت في مواجهة مرشحي السلطة بما فيها تلك التي اكتفت بتقديم رسائل احتجاج مليونية على غرار ما حدث في الاستفتاء على تعديل الدستور عام 2019.

القراءة الجادة للانتخابات النقابية الأخيرة ولأرقام رافضي تعديل الدستور عام 2019، تكشف بشكل واضح كل ما تخشاه السلطة من الانتخابات الرئاسية المقبلة، فهناك قلق يسيطر عليها من أن يشكل التصويت العقابي رقمًا مهمًا يغير من المشهد السياسي. لا سيما وأن الغضب الشعبي تواتر وتصاعد بشكل كبير خلال السنة الماضية وحتى الآن؛ على خلفية أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية، وضاغطة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

ومع ذلك، فالأضمن والأكثر أمنًا لهذا البلد أن يأتي أي تغيير عن طريق صناديق الانتخابات، بما يفتح الباب لتداول سلمي للسلطة، واحترام لإرادة المواطنين أصحاب المصلحة في أي تغيير وتقدم يطرأ على مصر ومستقبلها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.