بين أحمد السيد النجار وبيني مواقف، بعضها لا أستطيع الآن روايته. خطر.
بعد ظهر "جمعة الغضب" (28 يناير/ كانون الثاني 2011) أغلقت الشرطة شارعي رمسيس وعبد الخالق ثروت، ومنعت دخول نقابة الصحفيين، وعلى سطح النقابة بضعة أشخاص يهتفون بسقوط حسني مبارك. شعرت باليتم والوحشة، أين الناس الذين يحولون دون الغرق؟ هذه فرصتنا الوحيدة للطفو لو مددنا الأيدي وصنعنا جسور الأمل للعبور إلى المستقبل، ولو نُسف جسر لشيّدت جسور.
دخلتُ شارع طلعت حرب، وصرت في القلب. اطمأننت برؤية أحمد السيد النجار، وكارم يحيى، وعبد العال الباقوري، وأحمد ومصطفى اللباد. هنا يكون للهتاف بسقوط مبارك معنىً وصدىً. وفرقتنا قنابل الغاز، ولم نلتقِ إلا بعد تحرير ميدان التحرير.
قبل ثورة 25 يناير بسنوات، ظل النجار يؤذن في مالطة، يكتب ويستعرض وثائقَ وأرقامًا عن حقائق الفساد والبطالة والغلاء والركود والديون في كتابيه "الانهيار الاقتصادي في عصر مبارك"، و"الاقتصاد المصري.. من تجربة يوليو إلى نموذج المستقبل".
وفي العام التالي فاز النجار بجائزة الدولة للتفوق، فقلت إن الثورة نجحت.
النجار هو رئيس مجلس الإدارة الوحيد، ربما في العالم، الذي منعت مقالاته من النشر في مؤسسة صحفية أثناء رئاسته لها
ترأس النجار مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، وتعرضت علاقتنا لجفوة؛ لرفضي منصبًا في الأهرام. كنت أريد العودة إلى الكتابة. ثم اتصل يقترح عليّ رئاسة تحرير مجلة الهلال. ورفضت فورًا. أدهشه الرد، وطلب أن أفكر، فقلت فكرت، ولا أريد. قال "كل ما أعرض عليك منصبًا ترفضه؟ البلد في حالة تفتّت، وعلى من يستطيع إسناد ركن ألا يتخلى عن المسؤولية، والهلال مهمة كبرى". أعطيته موافقة تليفونية. وخضت تجربة "الهلال"، وفترت علاقتنا؛ لأنه خذلني. وفي أبريل/نيسان 2017 قابلته، وسألته سؤالًا مباشرًا أخشى الآن كتابته، ولا يمكن نشره. كنت متوجهًا إلى مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، وهناك قرأت استقالته، فتأكدت لي انتكاسة الثورة.
النجار هو رئيس مجلس الإدارة الوحيد، ربما في العالم، الذي منعت مقالاته من النشر في مؤسسة صحفية أثناء رئاسته لها. الريح قوية وعاصفة، وهو راسخ، نظيف اليد، مرفوع الرأس، لا شيء يكسر عينه. هو الآن أكثر قوة، بعيدًا عن المناصب. يتسلح بالوعي، وينطلق من حسٍّ وطني، وغيرة على مستقبل مصر، في لخبطة لا يمكن التنبؤ بنتائجها. في هذه الأجواء أصدر كتابه "الاقتصاد المصري.. ملامح الأزمة وآليات المعالجة على قاعدتي الكفاءة والعدالة". ربما نشره على نفقته، لإعفاء أي ناشر من تحمل مسؤولية محتوى كتاب أشبه بالوصية. الوصايا موجزة، وتسبق النهايات. في 132 صفحة يقدم خلاصات يستغني بها عن الاستطراد.
المؤلف، بحكم الدراسة والتخصص والخبرة، تستهويه الأرقام التي تلائم كتابًا في الاقتصاد، وتُثقل مقالًا يتوجه إلى القارئ العام. وقارئ هذا الكتاب يخرج من غابة الأرقام الرسمية والحقائق والغيوم وهو يقاوم التشاؤم، وإن ألقى المؤلف أضواء على دروب للنجاة، وقدم اقتراحات تتجاوز الكارثة الاقتصادية إلى الحاضنة الشعبية الداعمة لمحاولة للخروج، فلا تنمية ولا جذب لاستثمار في غياب الحريات السياسية، وتحسين صورة مصر يوجب "الإفراج الشامل عن المسجونين في قضايا سياسية... الذين لا علاقة لهم بالعنف أو الإرهاب"، وإلغاء قانون تنظيم التظاهر القمعي.
بعد حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، واستمرار تبعية جزيرتي تيران وصنافير للسيادة المصرية، كتب النجار رئيس مجلس إدارة الأهرام مقال "تيران وصنافير وقواعد تأسيس الأوطان والدول"، ورفض رئيس التحرير نشره، فنشره النجار على صفحته الفيسبوكية في 17 أبريل 2016، وحظي بقراءة وإعادة نشر أكثر مما لو نشرته الأهرام. وفيه يثبت بالأدلة والوثائق أن الجزيرتين مصريتان، وفيهما قوات مصرية، قبل وجود المملكة السعودية.
بسبب المطالبة بمصرية الجزيرتين اعتقل أبرياء بتهمة رفع العلم المصري. ويرى النجار أن غياب الإصلاح السياسي يفاقم الأزمة الاقتصادية، وفي غياب الشفافية والمحاسبة تسود الارتجالات، وتتداخل الصلاحيات. ويقول إن الأنشطة الاقتصادية لشركات الأجهزة "المحمية بجبروت سلطاتها التنفيذية" يجب أن تقتصر على السلع والخدمات التي تخصها، لا الاقتصاد المدني، وأن حصول أي شركة على عقود مقاولات عامة "دون أن تقوم هي بالتنفيذ الذي توكله لشركات أخرى، هو أحد أشكال الفساد وتشويه بيئة الأعمال لأنها تتربح من المقاولات العامة كسمسار للمقاولات وليس كمقاول تنفيذ أصيل"، كما يجب إخضاع "النشاط الاقتصادي لشركات الجيش وشركات باقي الأجهزة السيادية للضرائب... فطالما أن شركات الجيش تقوم بأي عمل أو نشاط مدني وغير عسكري، فعليها أن تخضع بالنسبة لتلك الأنشطة المدنية للضرائب لتحقيق العدالة في المنافسة في سوق الأعمال.. ولزيادة الإيرادات الضريبية العامة".
من آثار التوسع الهائل في الاستدانة إثقال تكلفة النمو، "وفرض الرسوم والضرائب العمياء"، وإفقار الطبقة الوسطى. كان الدين الخارجي 46.1 مليار دولار في بداية حكم عبد الفتاح السيسي عام 2014، وأصبح 157.8 مليار في مارس/آذار 2022. تفاقُم الديون صعّب الحصول على ديون جديدة، فاستسهلوا "العودة لواحدة من أردأ السياسيات الاقتصادية في عهد مبارك وهي خصخصة الشركات والأصول والأراضي العامة". بيعت شركات رابحة، "وما كان ينبغي بيعها. والأسوأ أنه تم بيعها لدولة صغيرة هي الإمارات وهي (باستثناء إمارة الشارقة) الأكثر انحدارًا للتطبيع الواسع النطاق مع الكيان الصهيوني وخدمة أهدافه ولا يؤمن جانبها في التصرف في الأصول المصرية العامة التي آلت إليها".
ويقول "الأسوأ أنه تم بيع تلك الأصول العامة للسعودية والإمارات بأسعار متدنية قياسًا إلى مضاعف الربحية"، وهي الفترة الزمنية التي تتيح استرداد قيمة الأسهم من الأرباح وحدها. بيع هذه الأصول خطيئة وطنية، "ولو ادعت الحكومة أنها مضطرة للبيع بسبب استحقاقات خدمة الديون التي ورطت مصر فيها.. من أجل التوسع في البنية الأساسية بصورة تتجاوز القدرات المالية واحتياجات الاقتصاد والمجتمع.. خطأ جسيم يصل إلى حد الكارثة الاقتصادية". ولو دعت الحكومة العاملين المصريين بالخارج إلى شراء هذه الأصول بالنقد الأجنبي، "مع إيضاح وضعها المالي الممتاز"، لأمكن سداد الديون، بدلًا من البيع لدول أجنبية، وهو إجراء لا علاقة له بالاستثمار أو زيادة الإنتاج.
ثماني سنوات من حكم السيسي انتهت بإفقار الطبقة الوسطى، التحامل على مصر
بعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، ونفي أحمد عرابي ورفاقه إلى جزيرة سريلانكا، أرسل اليابانيون يسألونه عما جرى، فأوجز النصيحة في كلمتين "إياكم والديون". ويقول النجار إن المنظمة المشتركة للشركات الأمريكية، بمساندة المؤسسات المالية الدولية، تحترف توريط الدول في التوسع غير محسوب العواقب في الاستدانة، لتمويل مشروعات غير ضرورية، بدعوى جذب الاستثمار، وتقع دول "في فخ هؤلاء القراصنة وتلجأ إلى كارثة بيع الأصول العامة المنتجة من أجل سداد الديون وفوائدها". وقد تجاوز "طوفان مشروعات البنية الأساسية" قدرات الاقتصاد.
مشروعات غير منتجة، والكثير منها "لم تكن له ضرورة ملحة تستحق الاقتراض والوقوع في مصيدة الديون الخارجية بكل تبعاتها والاقتصادية والسياسية"، ولا تحقق الهدف من "أي إصلاح اقتصادي" وهو تحسين أحوال المعيشة، فقد ارتفعت معدلات الفقر من 27.8% من عدد السكان عام 2015، إلى 32.5% عام 2018. وزاد نسبة الفقراء فقرًا مدقعًا من 4.4% عام 2013، إلى 6.2% عام 2018. ولا تحظى قطاعات اقتصادية مثل الصناعات الإنتاجية كثيفة العمالة بأولوية في الإنفاق، وتبدو "مشروعات سكنية عملاقة مثل العاصمة الإدارية حرفًا لمسار الاستثمارات".
بدلًا من تجميد الموارد والاستثمارات في بنايات، يمكن توجيهها إلى تنمية القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وبناء مدن صناعية صغيرة متكاملة الخدمات، في مناطق غنية بالثروات المعدنية والمحجرية. وتجربة ماليزيا ملهمة، عندما تعرضت عام 1997 "لأزمة اقتصادية كالتي تتعرض لها مصر حاليًا، أوقفت مشروعات البنية الأساسية الجديدة ورشدت الواردات... ونجحت خلال عامين في استعادة توازنها المالي والنمو الإيجابي السريع لاقتصادها". ويتضافر ذلك مع إصلاح قطاع الزراعة، بإعادة الدورة الزراعية، وإلزام الفلاحين بزراعة المحاصيل الإستراتيجية الأقل شراهة للمياه، وتوريدها بأسعار عادلة ومشجعة.
الخلاصة: تقييم السياسة الاقتصادية يتأسس على نتائجها.
ثماني سنوات من حكم السيسي انتهت بإفقار الطبقة الوسطى، والتحامل على مصر.