تخيل معي اجتماعًا سريًا على الدارك ويب أو في بقعة مظلمة على الأرض يجمع أعتى السفاحين بالقتلة المتسلسلين، ويدور بينهم حوار حول المغالطات التي يكتبها الناس عنهم في تصور شخصياتهم ودوافعهم وأساليبهم عند كتابة الأفلام والأعمال الدرامية المعمولة عنهم.
ربما أول ما سيعترضون عليه هو مقدمتي في هذا المقال، لأنهم بالأساس لا يعملون بشكل جماعي أو يتبادلون الخبرات ووصفات القتل الشهيرة، كما أتصور، بل هم ذئاب منفردة، قد يستلهمون قصص بعضهم البعض لكنهم لا يكررونها.
الاجتماع الذي أتخيله، لو حدث، لن يجمع سفاحين وقتلة متسلسلين، بل سيضم قيادات جيوش ورؤساء حكومات وزعماء، يُسقطون الضحايا في معارك يسمونها أحيانًا غزوًا وأحيانًا حربًا للدفاع عن النفس أو عن قيم الحرية والديمقراطية "لخدمة الشعوب".
أما القاتل المتسلسل، فهو فرد تحركّه أغراضه النفسية في احتياجه للقتل، بسبب دوافع مختلفة، سأحاول بحثها في هذا النص. ولا شك أدركتم أن مناسبة الحديث هو الحوار المجتمعي الذي خلقه مسلسل سفاح الجيزة ويتابعه كثيرون.
لست بصدد نقاش العمل الدرامي، وإن كان برأيي نجح حتى الآن، وإلى حد معقول، في تقديم الفكرة ورسم شخصية السفاح وإظهار قدرته على التأثير في من حوله وخاصة ضحاياه. كما أنه خلق مساحة نقاشية مهمة على المستوى الاجتماعي.
من هو السفاح؟
يقول الكاتب والباحث في علم الجريمة البرفيسور ديفيد شميدت "لا نجد الشيطان الحقيقي في الصورة الغريبة للمهرج القاتل، ولكنه في اللون الرمادي اليومي للقسوة الإنسانية، وذلك لأن الوحشية الحقيقية ليست موجودة في الصحراء، بل هي في كل مكان حولنا".
السفاح شخص عادي يشبهنا، لا أنياب بارزة ولا هيئة غول من القصص الخرافية، بل على العكس؛ يتمتع القتلة المتسلسلون إلى حد كبير بشخصيات لطيفة في تعاملهم مع محيطهم، مما يجعلهم بعيدين عن دائرة الشك، وفق ما ذهب إليه أستاذ الجريمة في جامعة بوند الأسترالية واين بيثريك.
يتجسد ذلك بوضوح في شخصية بطل مسلسلنا التي يجسدها الممثل أحمد فهمي؛ هادئ ومجامل، علامات التدين والورع واضحة في تصرفاته وصوته الخفيض وحركته الهادئة. حتى نكاد نشك في نوايانا نحن تجاهه وليس العكس. بروفايل يمكن أن ينطبق فعلًا على شخصية السفاح في إحدى حالاتها.
تاريخيًا، استُخدم مصطلح القاتل المتسلسل في شرح السياق القانوني لطبيعة الجرائم المرتكبة لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وذلك بعد سلسلة من الجرائم في ذلك العقد كان لها الأثر الكبير على بداية التعامل مع تلك الظاهرة، وتناولها بالبحث والدراسة وتخصيص قسم لها في المباحث الفيدرالية FBI.
كان أبرز السفاحين من تلك الفترة جون واين جاسي، المسؤول عن قتل أكثر من ثلاثين رجلًا وصبيًا، وقدّم مثالًا لقدرة شخصٍ على ممارسة الحياة بشكل طبيعي بينما على خطٍّ مواز يرتكب أفظع الجرائم.
لا توجد في العالم العربي إحصائيات دقيقة حول جرائم السفاحين المتسلسلين، وذلك مرده في أحوال كثيرة إلى غياب التوثيق أولًا، ثم إلى ضعف الأجهزة الأمنية بشكل عام في تتبع الجرائم وملاحقة مرتكبيها. ورغم أن عدد الرجال من القتلة المتسلسلين أعلى بكثير من النساء في العالم، فإن أبرز قصة لسفاحٍ في منطقتنا، للمفارقة، هي للشهيرتين ريا وسكينة، اللتين روعتا الإسكندرية مطلع القرن العشرين بجرائم ذبح النساء وسرقة ممتلكاتهن.
هل نحن قتلة محتملين؟
تشير بعض المراجع الى أن تكوّن شخصية السفاح أو القاتل المتسلسل يمر بمراحل تبدأ مبكرًا في حياة الإنسان، وهناك نسق يكاد يكون مشتركًا، وهو التعرض للصدمات النفسية والجسدية العنيفة أثناء الطفولة مما يترك أثرًا ممتدًا في شخصياتهم، ورغبة مرضية في السيطرة على من حولهم، يرافقها انعدام التعاطف مع الضحايا وعدم الشعور بالندم. ولديهم انبهار ملحوظ بالعنف والدم، يميلون إلى أذية الحيوانات والكائنات الأضعف منهم، وهي سلوكيات سيكوباتية معادية للمجتمع.
السفاح مثلنا جميعًا، ابن بيئته الاجتماعية
أما على المستوى الاجتماعي، فالسفاح مثلنا جميعًا، ابن بيئته الاجتماعية. لكنه شخص تعرض للعنف والاستغلال المعنوي والجسدي في طفولته، ونشأ غالبًا في أسرة مفككة وتعرض للعزل والنبذ الاجتماعيين، ما ولّد شخصية غير قادرة على بناء علاقات حميمة حقيقية مع محيطها، وغير قادرة على التعبير عن نفسها و/أو مشاركة مشاعرها مع الآخرين. طبعًا هذه بعض السمات العامة لكن القتلة المتسلسلين لديهم سمات شخصية كثيرة متنوعة، ويشغلون مناصب مختلفة ومن خلفيات اجتماعية متعددة.
من منَّا لم يتعرض في نشأته لعامل أو أكثر من تلك العوامل؟ أو لم يعانِ شكلًا من أشكال الاضطربات العقلية أو النفسية؟ هل هذا يجعلنا جميعًا سفاحين محتملين؟ ربما نعم وربما لا.
بحسب علم نفس الجريمة فإن أي شخص قد يكون مُعرضًّا لارتكاب الجرائم على اختلافها لأسباب نفسية أو مجتمعية متعددة، لكن الفيصل هو قدرة الفرد على التعامل مع الأزمات ومعايشتها وتخطيها. فاستجابة الفرد وتكيفه مع الأزمات كبصمة الإصبع؛ لا تتشابه بين شخص وآخر حتى لو تشابهت ظروفهما. لذا فإن شخصية السفاح هي تضافر معقد، ويمكن القول إنه نادر، لعدد من العوامل خلقت هذه الشخصية نادرة الحدوث.
الديكتاتور والسفاح
وكما تعلمون أحب أن أعود إلى ChatGPT "حبيبي العبقري" لاستشارته والبحث عن المعلومات والتوثيق، فسألته من باب المشاغبة عما إذا كان ممكنًا أن نُسمّي الديكتاتور، أي ديكتاتور، قاتلًا متسلسلًا؟ وأعطيته أمثلة عن دكتاتوريين سفاحين رحلوا، وآخرين لا يزالون يحكمون بلادهم رغم ارتكابهم المذابح الجماعية والإبادة.
تنهد ChatGPT تنهيدة طويلة، وأخذ وقته في الإجابة عن هذا السؤال غير المتوقع، وقال لي: إياكِ واللعب بالنار وابتعدي عن هذه الأسئلة المثيرة للمشاكل، وركزي على قصة سفاح الجيزة وأحمد فهمي أحسن لك! أما الديكتاتور فربما يكون سفاحًا، لكنَّ التاريخ كفيل بكتابة نهاية قصته.