لم يعد الموت الآن على حاله من حيث التقديس عند المصريين، صار هذا موجودًا على جدران المعابد القديمة، وفي صفحات كتب التاريخ الاجتماعي والفلكلور، أما في الواقع، اختلف الأمر إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.
توارت، ولو قليلًا، الثقافة التقليدية المنجذبة إلى جلال الموت، تحت توالي الفجائع والفظائع التي رآها الناس في السنوات التي أعقبت ثورة يناير، فباتوا ينظرون إلى الموت باعتباره شيئًا اعتياديًا، لا يثير فزعًا ولا حزنًا، وإن جاء فهو لبرهة، ثم يمضي كل شيء على حاله.
المصريون ليسوا استثناءً بين البشر في عدم الشعور بالفزع حيال توالي موت كثيرين لأسباب غير طبيعية. فالشعوب التي تواجه الحروب والأوبئة والمجاعات والاضطرابات الاجتماعية الرهيبة، يقل انشغال كل فرد فيها بموت غيره، في زحمة انشغاله بنجاة نفسه، ليكون الشعار المرفوع دائمًا "انج سعد، فقد هلك سعيد"، بغض النظر عن أسباب الهلاك، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيولوجية.
قبل ثورة يناير كان هناك كثيرون يموتون خلال موجة العنف والإرهاب التي استمرت قرابة عشر سنوات من 1988 إلى 1997. لكنه كان موتًا معزولًا، لا يطّلع عليه إلا أهل القتلى، وكل طرف يسمي قتلاه شهداء؛ أهل ضباط وأفراد الشرطة الذين مد إليهم الإرهابيون يد الاغتيال، وأهل أفراد التنظيمات السياسية الإسلامية حاملة السلاح.
بل أن بعض العائلات الممتدة لهؤلاء الأفراد كانت تعتبر التخلص منهم مسألة وقت، وسيُرفع عن كاهل بقية أفراد العائلة عبء المراقبة والمطاردة، وربما المساءلة، بل والحبس أحيانًا، حين كان بعض أهل هؤلاء يؤخذون رهائن في أقسام الشرطة حتى يُجبر الهاربون من المتطرفين والإرهابيين على تسليم أنفسهم.
ورغم توالي الموت وقتها بسبب العنف السياسي، فإن أغلب الناس كانوا بعيدين عن متابعته بشكل يومي، يتأسفون لحدوث هذا، ويتمنون توقفه، ويشفقون على الموتى من الشرطيين، لاسيما أن كثيرين منهم كانوا يُقتلون لمجرد أنهم يعملون في وزارة الداخلية، حتى لو لم تكن لهم أي علاقة بالعنف.
وكان الناس يشفقون على الموتى من الإرهابيين لأنهم ضيعوا أرواحهم بسبب تبني أفكار خاطئة، والعيش في أوهام وخيالات مريضة.
وكان الموت أيضًا يُفزع الناس في الأحداث الكبرى مثل واقعة حرق قطار الصعيد، أو غرق العبارة سالم إكسبريس في البحر الأحمر. طريقة الموت نفسها، حرقًا وغرقًا، وعدد الذين قضوا نحبهم، كانت مروعة، لا يمكن أن تمر على نفوس الناس هينة. أما الذين يموتون في حوادث الطرق اليومية، ورغم أنهم يتجاوزون السبعة آلاف شخص سنويًا، فإن تفرقهم بين الطرق والبلاد والأوقات، جعل الفزع من رحيلهم أخف وطأة.
ظل الموت المجاني، لحوادث ثأر أو شجار أو غيرها، يثير الأسى في النفوس، ولا ينسى معه الناس جلال الرحيل الأبدي. لكن ظل الجلال كله لرحيل أحباء وأقرباء وأصدقاء للأسباب المعتادة، لا سيما أولئك الذي يخطفهم الموت في ريعان الشباب.
زاد تبلد المصريين حيال الموت، مع انتقال الثورات في البلدان العربية الأخرى إلى حالٍ من الفوضى والاحتراب الأهلي
وحين اندلعت ثورة يناير لم يقبل الناس أن يموت أحد برصاص الشرطة، فاشتعل الغضب عارمًا بمجرد سقوط أول شهيد في السويس؛ مصطفى رجب. ومع توالي الشهداء زاد الغضب، واعتبر الناس وقتها أن من قتلهم لا بد أن يدفع الثمن. حتى السلطة نفسها بدت منزعجة لهذا، وتدفعه عن نفسها، متهمة أطرافًا أخرى بالوقوف وراء هذا القتل.
مع توالي الموجات الثورية، والأخذ والرد بين الثوار والقوى المضادة لهم، واشتداد الصراع السياسي، واستباحة كل شيء في سبيل الانتصار بأي ثمن، انفتح شلال الدم، وصار كثيرون يشعرون بنوع من اللامبالاة حيال موت آخرين، بل وجدنا حالة من النكاية والشماتة والتشفي المتبادل فيمن يموت، وكأنه كان كلبًا مسعورًا ضالًا، لا بد من الإجهاز عليه.
الأدهى والأمَّر أننا وجدنا في بلادنا من يدعون إلى القتل، ويحرضون بشدة عليه، كأنهم يحضّون الناس على المشاركة في الانتخابات مثلًا، أو الذهاب إلى الاستاد خلف فريق كرة القدم الذي يشجعونه. وعلى التوازي كان هناك من يبرر القتل لأسباب سياسية أو دينية.
وزاد تبلد المصريين حيال الموت، مع انتقال الثورات في البلدان العربية الأخرى إلى حالٍ من الفوضى والاحتراب الأهلي، جراء إطلاق المستبدين، في سبيل الاحتفاظ بسلطانهم، حروبًا على الشعوب، أو استغلال أطراف داخلية وخارجية لحركة الشعوب من أجل الحرية والعدالة والكرامة، من أجل اقتناص السلطة أو تحقيق مطامع كانت مؤجلة.
وجاءت السوشيال ميديا لتزيد من تعرض الناس لصور القتل في كل لحظة، فتآلفوا معها، أو اعتادوا عليها، فإن سمعوا أنها جرت بالقرب منهم، كانوا فاقدين الكثير في التعامل معها، كما كان ينبغي لها في سالف الأيام.
لكنَّ هذه الحال لن تلبث أن تتراجع تدريجيًا حين تبرد الأعصاب على مهل، ويستعيد الناس وعيهم بأثر رجعي، فيرون أن القتل غير مقبول، ولا بد من إدانته أولًا، ثم محاسبة مرتكبه ثانيًا.