في 20 أغسطس/آب أطلق رجل النار على زوجته وأبنائه الأربعة في جزيرة الوراق بالجيزة، فقتل ابنه الأكبر وأصاب البقية، بسبب شجار مع الزوجة حول "مصروف البيت". لم يكن هذا الحادث الأول من نوعه، إذ تكررت، بوتيرة متسارعة، حوادث مشابهة أو أقل منها، حتى باتت تُشكل ظاهرة اجتماعية لا يغفل عنها أحد، لاسيما أنها تمس الأغلبية الكاسحة من المصريين.
هذه الجرائم المتوالية أشبه بدخان يُنبه إلى نار مستعرة تحت رماد كثيف. إنه رماد الصبر على الضيم والإفقار، إما بحكم تمرس المصريين عليه، أو لخوفهم المزدوج مرة على المجتمع من الفوضى إن خرجوا بصدور عارية يئنون مما هم فيه، ومرة من عقاب سلطة، زجت في السجون بآلاف من المعترضين لفظًا، فما بالك بمن يحتجون في الشوارع؟
وتُدرك الأغلبية الكاسحة من المصريين أن ما هم فيه من إفقار متواصل، أدى إلى انهيار الطبقة الوسطى ورمى الفقراء تحت خط الكفاف، ومن كانوا تحت هذا الخط يندهش الحكماء والعلماء ويتعجبون من بقائهم على قيد الحياة أصلًا.
مسار التناحر هو الأشد قسوة، والأكثر فداحة، حيث يتآكل المجتمع داخليًا
ويوجه أغلب المصريين أصابع الاتهام إلى السلطة في إفقارهم، الذي يعود الجانب الأكبر منه إلى سياسات هوجاء رعناء فاشلة، كانت مصر في غنى عنها، لو كان الرئيس عبد الفتاح السيسي تقدم ببرنامج مدروس يضبط إيقاعه على أولويات المجتمع في هذا الوقت الفارق من تاريخ مصر، حين تقدم إلى الرئاسة في دورتها الأولى، ثم التزم بهذا البرنامج أو أكثره.
ورغم أن فرص اختبار ما مضت فيه السلطة الحالية قد تكررت وتجددت، فإنها صمّت آذانها عن مطالب الشعب، وأعطت ظهرها لتنبيه ذوي الخبرة، ومضت فيما تراه، رغم آثاره الجارحة على المجتمع كله، ومنه بالقطع على الدولة، التي يكون المجتمع في قلبها من حيث التكوين، وفي مقصدها من حيث الوظيفة، وفي صلبها إن تحدثنا عن بقاء الدولة ووجودها.
مسارات الماضي
على مدار التاريخ، واجه المصريون حالات شبيهة، لا سيما في زمن حكم العثمانيين الذين ولوا المماليك الإدارات المحلية للبلاد. ولم تخرج تصرفات أهله عن ستة مسارات.
1 ـ المقاومة: حيث قامت احتجاجات متقطعة بين زمن وآخر، إثر اعتراضات الفلاحين في الريف، وأهل الحرف في المدن، على الظلم الواقع عليهم نتيجة فرض ضرائب باهظة على كل شيء، وأي أحد.
ولم يكن بوسع هؤلاء تغيير الأوضاع جراء تفرقهم، وتقطع احتجاجاتهم، وغياب أي تنظيم يجمعهم، أو قائد ينهض بهم، في مقابل ضراوة الممسكين بعصا السلطة، حيث فرضوا الأمر الواقع، وأخمدوا أي احتجاج في مهده، ونكلوا بأهله، وساعدهم في هذا الوجهاء أصحاب الالتزام في الريف، وبعض شيوخ الطوائف الحرفية في المدن.
2 ـ الوساطة: ويتم هذا من خلال مشايخ الطرق الصوفية وشيوخ الأزهر وبعض قادة الجند، الذين كانوا يتدخلون أحيانًا منبهين من بيده الأمر إلى أنين الناس جراء الضرائب، محذرين من هياجهم بسبب الإفقار المتوالي والقبضة الشديدة.
3 ـ التحايل: حيث كان الناس يلتفون على قرارات السلطة وتدابيرها، فيفرغونها من مضمونها تباعًا، بينما يتظاهرون بالامتثال والطاعة.
4 ـ الدروشة: ففي أوقات الفقر والظلم الشديد، وحين يعجز الناس عن استيعاب ما يجري لهم، ولا يقدرون على بذل أي جهد في سبيل تغييره، ولا يرون ضوءََا في نهاية النفق الذي يمرون به، يلجؤون إلى الانخراط في التدروش، ويقصدون من يزعمون إطلاعهم على بعض الغيب، باختلاف أنواعهم.
5 ـ الهروب: حيث كان كثير من الفلاحين يهجرون الأرض التي يزرعونها، ويهربون من قراهم، للبحث عن ملتزم آخر يجدون في كنفه بعض العدل والرأفة. وفي المدن كان بعض أصحاب الحرف يتركونها، إن عجزوا عن دفع الضرائب الباهظة الظالمة التي تُفرض عليهم.
6 ـ التناحر: وهذا المسار هو الأشد قسوة، والأكثر فداحة، حيث يتآكل المجتمع داخليًا، فيسعى أعضاؤه إلى البحث عن حل فردي لمشكلاتهم أولًا، دون اعتبار ملموس لمشكلات الآخرين.
وهذا السعي، الذي يتم في ظل ندرة وقهر، يؤدي ثانيًا إلى صراع مع الآخرين حول تحقيق المصالح الصغرى، وانتزاع المنافع الضيقة. وهذا الصراع قد يقف لدى البعض عند حالة من التربص والحنق، ويمتد عند البعض إلى إلحاق الأذى اللفظي والمادي بالآخرين.
خطورة التناحر على السلطة
هذا الأذى قد يلحقه الشخص بأقرب الناس إليه، داخل الأسرة الواحدة، أو حتى بنفسه حين يسقط في اكتئاب قد يفضي إلى الانتحار، أو إدمان قد يؤدي إلى الانهيار، أو تفلُّت يذهب به إلى حال من اللامبالاة، بما يجعله يتحول سريعًا إلى عبء على نفسه وأهله ومجتمعه.
إن حدد المجتمع أسباب فقره، وأشار بلا مواربة إلى من يقهره، فوقتها سينفجر في وجهه
وخيار التناحر يعني أن يدرك المجتمع أنه غير قادر على مواجهة عسف السلطة وظلمها، بما يساعده في الوصول إلى حل جماعي أو عام لمشكلاته، فيدخل في صراع مفتوح مع أفراد المجتمع، يستبيح فيه كثير من الناس كل شيء، لا سيما إن وجدوا أن بقاءهم على قيد الحياة مهدد، وهذا يتم حين يعجز المرء عن تدبير قوت يومه.
يمكن لسلطة سياسية غارقة في الأنانية وقصور النظر أن تستريح لهذا المسار، وتفضله عن وجود قوى فاعلة بين الناس تعبر عنهم، وتستطيع أن تعكس مطالبهم، أو تنظم جهدهم لتضغط في سبيل ترشيد القرار، وتحسين الأحوال، لكنها لا تدرك أن مجتمعًا يتناحر يعني انجراف التربة من تحت أقدام هذه السلطة تباعًا، حتى تسقط هي نفسها إلى الهاوية.
كما لا يوجد ما يمنع مجتمعًا متناحرًا من أن يستعيد قواه الفاعلة في زمن وجيز، خاصة في ظل ثورة الاتصالات التي أعطت الناس وسيلة للتفاعل والتواصل والحشد. فإن حدد المجتمع أسباب ما هو فيه من فقر وضيم وحيف، ثم أشار بلا مواربة إلى من يفقره ويقهره، وتأكد من أن الحياة لن تستقيم إلا بمواجهته، فوقتها سينفجر في وجهه، لا سيما إن تساوت عنده كل الاحتمالات، ولم يجد بُدًّا من الصراخ.