ناقشنا في المقال السابق بعضًا من الخطوط العريضة لمشكلة السيولة الاجتماعية التي تُصعّب على الفرد إدراك موقعه الطبقي والاجتماعي، وتحرمه في بعض المحطات التاريخية من القبض على وعي متماسك من داخل ذلك الموقع.
وفي هذا المقال أرصد قدر الإمكان عددًا من الشروط المادية التي كانت ولا تزال سببًا للسيولة الاجتماعية في بلادنا، والخيارات التي تولدت من داخلها. وتحديدًا ما يتعلق بحالة التطور الرأسمالي في مصر وعلاقته بالتحديث الاجتماعي وترتيباته الطبقية.
لم يلحق إلا القليلين
دخلت علاقات الإنتاج الرأسمالية مصر قبل الاحتلال البريطاني بثلاثة عقود على الأقل، لكنها لم تندمج في النظام الرأسمالي العالمي إلا بترتيبات إمبريالية منظمة حددتها سلطة الاستعمار البريطاني. حاجج الزعيم الشيوعي المصري الراحل شهدي عطية الشافعي في كتابه تطور الحركة الوطنية في مصر، بأن الاحتلال البريطاني وأد إمكانيات تطور الرأسمال الصناعي في مصر عبر تخريب وتخريد صناعة نسيج وطنية كانت قائمة بالفعل قبل عام 1882.
في الواقع، لم تفارق رواية الحركة الوطنية المصرية تصوراته كثيرًا. فهي اعتبرت الاستقلال التام شرطًا لازمًا لبلورة قوى رأسمالية وطنية قادرة على النهوض بمشروع تنمية اقتصادية حديث، له من ملامح الندية والاستقلال في النظام العالمي ما يسمح بإعادة تشكيل المجتمع المصري على نحو أكثر تطور وعصرية.
لم يحقق "الاستقلال الوطني" إلا القليل من طموحاته التحديثية في أغلب المستعمرات التي نالت استقلالها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وجب هنا تَذَكُر مقولة الكاتب الفرنسي كريستيان موريل، بأن أروع ما حققه الاستعمار لنفسه هو مهزلة ما سمي لاحقًا بتصفية الاستعمار الذي انتقل بخفة إلى كواليس المسرح الإمبريالي كي يشرف على إخراج العرض بنفسه.
ومن منطلقات أكثر نظرية وتدقيقًا، أسس الراحل الكبير سمير أمين لنظريته عن تقسيم العمل الجديد داخل المنظومة الرأسمالية العالمية في المرحلة التاريخية نفسها عبر تقديم إسهام نظري متماسك في الاقتصاد السياسي، سماه "تطورًا لا متكافئ" داخل النظام الرأسمالي العالمي، يفضي إلى تكوين مراكز وأطراف داخله وبموجبه، لتعيد المراكز الرأسمالية صياغة علاقتها بأطرافها على أسس استعمارية جديدة.
طوّر سمير أمين لاحقًا تصوراته بلغة أكثر سياسية، اعتدت بأن الشرط الضروري لإبقاء العلاقات المركزية – الطرفية على حالها هو امتلاك البُلدان المركزية لعدد من الاحتكارات، أسماها "الاحتكارات الخمسة"، وهي احتكار السبق التكنولوجي والانفراد بمقدمة منافسات أجياله، واحتكار السيطرة على التدفقات المالية سواء على مستوى السيطرة على المراكز المالية جغرافيًا، أو صياغة القوانين التي تنظم عملها، ومعهما وبالتأكيد احتكار القوة العسكرية ولا سيّما النووية، إلى جانب احتكار الهيمنة على وسائل الإنتاج الأيديولوجي والآلات الإعلامية والتواصلية الكبرى، مع احتكار الوصول والنفاذ إلى الموارد الطبيعية أينما كانت وقبل أي منافس محتمل.
وبالنظر السريع للتعريفات التي وضعها أمين للاحتكارات المحدّدة للهيمنة ومشروطية كسرها لتحقيق توازن داخل النظام الرأسمالي العالمي، فلربما لا نجد ناجيًا منها بعد النصف الثاني من القرن العشرين إلا جمهورية الصين الشعبية.
لكن في التحليل الأخير، لم يكن المسار التاريخي لدول الجنوب والمستعمرات واحدًا صحيحًا أو صفرًا مستديرًا. ذلك أن بعض مشروعات دول ما بعد الاستقلال نجحت بشكل نسبي قياسًا بمشروعات أخرى لم يحقّق منها قفزات عملاقة إلا بعض حالات نادرة. غير أن الفشل الكلي لحدود الانهيار لم يكن مصيرًا حتميًا للجميع، لأن بعضًا من تلك الدول استطاعت إدارة علاقة متوازنة بين رأس المال المحلي والأجنبي لخدمة مشروعها التنموي.
لماذا لم تصطد قططنا فئرانًا أو حتى صراصير؟
والمسألة هنا ليست متعلقة بالهوية الوطنية للاستثمار من عدمه، هل هو قادم من دول خارجية أم ناتج عن مكوّن محلي، وهل هذا المكوّن المحلي من أموال مواطنين أقحاح أم وافدين مقيمين؟ بل كان المعيار مدى نجاعة النظام السياسي، والكتلة الاجتماعية المهيمنة داخله، على إدارة النمو الرأسمالي على المستوى القُطري بشكل يخدم احتياجات التنمية السكانية وتحسين أحوال البشر العامة والتفصيلية. أو كما قال الزعيم الصيني دينج شياو بنج، ليس مهمًا أن يكون القط أبيضَ أو أسودَ مادام قادرًا على اصطياد الفئران.
فلماذا لم تصطد قططنا فئرانًا أو حتى صراصير؟ وما أثر ذلك على تشكيلاتنا الاجتماعية التي ولدت سائلة من داخل حداثتها؟
أشياء من الخوف وقوانين للعقاب
لكل مشروع استقلال وطني قاطرته الاجتماعية. دشنت الثورة الفرنسية مبدأً يقول بأنه لا جمهورية دون شعب، وجزم المفكر الأمريكي بارينجتون مور بأنه دون طبقة برجوازية لا توجد ديمقراطية.
نالت مصر "استقلالها" التام في منتصف خمسينيات القرن العشرين. وترافق مع ذلك الاستقلال تكوين عدد من المؤسسات "السيادية" التي تضمن سيادة البلاد والحفاظ على استقلال مصالحها وإرادتها الوطنية مصونة. لم تتأسس الجمهورية المصرية الأولى محمولة على أكتاف قيادة برجوازيتها الوطنية ممثلةً في حزب الوفد تحت قيادة الزعيم مصطفى النحاس، بل بقيادة تنظيم سياسي عسكري اسمه الضباط الأحرار.
اعتبر ذلك التنظيم أن طبقة البرجوازية الوطنية ليست أهلًا لتحقيق الاستقلال وما يتطلبه من استحقاقات، خاصةً بعد انتفاضة حريق القاهرة في يناير/كانون الثاني عام 1952. رأى الضباط الأحرار في البرجوازية الوطنية المدنية طبقة عاجزة، وذلك على أحسن الظنون. أما في أسوأها، فرأوا فيها طبقة عميلة للاستعمار البريطاني والمصالح الأجنبية، ومعادية لعموم الشعب.
وفي أعقاب سيطرة مجلس قيادة الثورة، قادت رأسمالية الدولة وجهازها البيروقراطي عملية التنمية لعقدين من الزمان ثم اضطرت بعدها لإفساح المجال للقطاع الخاص كي يشاركها بعض من مهماتها. غير أن البرجوازية التي نبتت من تحت قبضتها كانت مرتهنة طوال الوقت لسيادة أجهزة الدولة، تتراقص مطواة التأميم والعقاب أمام وجهها طوال الوقت.
فالدولة اليوليوية حرصت على تعيين الحدود والمسافات بينها وبين نخب رجال الأعمال التي صنعتها صناعةً أو سماحًا. حتى أن حسنى مبارك كان يُصارحهم أحيانًا بضجره منهم في بعض المجالس، مهددًا بإعادتهم مرة أخرى إلى ركوب "البسكلتات" في نادي الجزيرة.
نشأت رأسمالية "المحاسيب" بعيدةً كل البعد عن امتلاك الحد الأدنى اللازم من الطموح في السلطة أو في قيادة المجتمع، ورُسم لها خط أناني لا تتعداه. ليس مطلوبًا منها إلا مراكمة الأرباح ودفع الرشاوى والتوحل في الفساد ثم انتظار عقاب دوري يأتي كل عقد تقريبًا. وذلك عبر آلية يتورط الجميع من خلالها في مخالفة القانون، حتى أصبح مفهوم سيادة القانون في مصر معيارًا للعقاب لا للعدالة. وبشكل جعل العداء لدولة القانون مزاجًا شعبيًا، مثلما الطلب عليها رجاءً شعبيًا في نفس الوقت واللحظة، وذلك في تناقض مؤسف وتعيس.
الأنكى من ذلك، هو تغيّر شبكات رأسمالية "المحاسيب" بشكل دوري بتغير كل نظام سياسي داخل الجمهورية اليوليوية. فمحاسيب العهد الناصري من أصحاب الحظوة داخل مؤسسات القطاع العام سرعان ما تغيروا في عهد السادات برجال مرحلة الانفتاح الاقتصادي، الذين جمع بعضهم بين مناصب في الدولة وبين أعمالهم الخاصة.
ولما جاء حسنى مبارك اختفت أسماء مثل سيد مرعي، ورشاد عثمان، وعصمت السادات، وتوفيق عبد الحي، وباقي نجوم مرحلة أنور السادات وفرقته الماسية، ليحل محلهم الطغمة الثمانينية في عقد مبارك الأول. فبرزت أسماء سامي علي حسن، وأحمد وفتحي الريان، وحسين سالم، وهؤلاء بدورهم أُطيح بمعظمهم خارج المشهد في التسعينيات إما بالسجن أو بالهروب للخارج. لتحل محلهم أسماء جديدة أكثر ارتباطًا بجمال مبارك، وهكذا دواليك وباقي القصة معروفة.
تَغَيُّر شبكات رأسمالية المحاسيب مع كل نظام سياسي جعل الوجود الرأسمالي يتلبسه شعور بالإدانة والجريمة وعدم الأمان طوال الوقت. وذلك الشعور تسرّب بدوره إلى بقية فئات المجتمع.
في عام 2011 رفعت الثورة شعار محاربة الفساد والتطهير واستعادة المال المنهوب، ألم تشعر قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى ورجال الأعمال المتوسطين أنهم أيضًا قد يكونوا مستهدفين محتملين من ذلك الشعار؟ ألم تحصل بعض فئات الطبقات الوسطى أيضًا على بعض امتيازاتها من خلال مخالفة أو واسطة ما؟
كان ذلك فيلًا صامتًا في الغرفة. لم يُطرح بشجاعة سؤال أين ومتى ينتهي ويتوقف التطهير والإصلاح، فانتهى الأمر أن أحدًا لم يُحاسب جديًا في نهاية المطاف.
الجريمة الفعلية التي كانت سببًا حاسمًا في السيولة الاجتماعية هي جعل المبادرة لتنظيم المجتمع جريمة في حد ذاتها
من أعلى إلى أسفل
ومثلما حُرمت برجوازية المحاسيب الرثّة من الملامح الاجتماعية الأساسية والسوية للإرادة البرجوازية الموجودة في أي بنية حديثة، حُرمت كذلك الطبقات العاملة من كل شيء إلا العمل نفسه، وتعرضت لدرجات قاهرة من القمع حرمتها من أي مستوى من مستويات التنظيم.
وسط تلك الفوضى، تحققت بالفعل بعض من نبوءات سمير أمين، فنمت داخل البلاد قطاعات "مُدولة" من الاقتصاد الوطني، لها تقويمها ونظامها الخاص على مستوى البنية التشريعية وبنية الأجور والعلاقة بالخارج وحتى لغة التواصل، بالشكل الذي فتح الطريق لوجود ثنائية مصر وEgypt، الحاضرة بقوة الآن.
وبسبب الفوضى نفسها هاجرت قطاعات معتبرة من العمالة الماهرة وغير الماهرة إلى الخارج، وصارت تراكماتها وفوائضها سهمًا رئيسيًا في الاستثمار المحلي على نحو جعل التشكيلة الاجتماعية ومراتبياتها تُصاغ خارج حدود الدولة الوطنية، وليس نتاجًا لسياساتها.
وفي هذه البنية التي تُتوارث "لا شرعيتها"، تطورت الرأسمالية المصرية بأسوأ صورة ممكنة وأكثرها هشاشة وتخلفًا، حيث لا يحمل النشاط الاقتصادي من وطنيته إلا طبيعة شبكاته الأمنية. فأصبح وجودنا الرأسمالي مجرد متغير تابع هامشي وسط تلاطم أمواج دورات الرأسمالية العالمية صعودًا وهبوطًا، نلحق بآلياته متذيلين الركب والسباق في فترات نموه، لنكون في مقدمة من يدفعون الأثمان في فترات تعثره وكساده.
السيولة الاجتماعية هنا منتَج شرعي لبيئة غير شرعية بالتعريف، تأسست على غير سيادة القانون أو عدالته، على نحو جعل النمو الرأسمالي في مصر موصومًا في ملامحه بالجريمة، لكنها ليست الجريمة الأكبر التي أسست للسيولة الاجتماعية. لأن رحلة التحديث الرأسمالي المصرية، في كثير من قوانين عملها، كانت خاضعة لعلاقات رأسمالية عالمية أكبر بكثير من قدراتها.
الجريمة الفعلية التي كانت -عن وعي ونية وإرادة- سببًا حاسمًا في تسيّد السيولة الاجتماعية، هي سلب المجتمع المصري وقواه المختلفة من قدراته التنظيمية، وجعل المبادرة الحرة لتنظيم المجتمع وفئاته جريمة في حد ذاتها.
وهذا ما سوف نناقشه في المقال القادم.